بعد انتهاء المسلسل التركي "قيامة أرطغرل" برز بعده مباشرةً، وتكملةً له مسلسل "المؤسس عثمان" أو "قيامة عثمان"، كما تعارف عليه المشاهدون، الذي يحكي قصّة وتاريخ مؤسس الدولة العثمانية عثمان بن أرطغرل. وكما كان في مسلسل قيامة أرطغرل العديد من المبالغات وربما بعض الأخطاء والتهويل الدرامي، ففي مسلسل المؤسس عثمان أيضاً تبرز في المقابل بعض المبالغات الدرامية.
في هذا التقرير سنحاول تقديم مقاربة لشخصية عثمان كما ذكرتها العديد من الكتب التاريخية، دون مبالغات دراميّة.
هل كان "حُلم" المؤسس عثمان حقيقياً؟
تعتمد الرواية التركيّة شبه الرسمية والشعبية في آن على أنّ عثمان بن أرطغرل رأى رؤيا في منامه كالتالي: وهو أنه رأى القمر يصعد من صدر والد زوجته إلى السماء، وبعد أن صار القمر بدراً نزل في صدر عثمان. ثمّ خرجت من صُلبِهِ شجرةٌ نمت في الحال وحاز ظلّها الكون كلّه، وكانت الجبال الكبرى تحت ظلّها، وكذلك خرج النيل ودجلة والفرات ونهر الدانوب من جذعها، وتحوّل ورق هذه الشجرة في الحال إلى سيوف يحوِّلها الريح نحو القسطنطينيّة!
غير أنّ أغلب المؤرخين المعاصرين – منهم حتّى المؤيّد للدولة العثمانية بالأساس – يعتبر أنّ هذه الرؤيا قد وُضعت لاحقاً لتأكيد تميُّز وأصالة الدولة العثمانيّة، مثل المؤرخ والسياسي المصري محمد فريد بك، والمؤرخ اللبناني محمد سهيل طقوش في كتابيهما عن الدولة العثمانية.
نشأة المؤسس عثمان في ظلّ أبيه
كما يظهر المسلسل فإنّ عثمان كان أصغر أولاد أبيه أرطغرل، لكنّه كان أكثرهم مكانةً عسكريةً وسياسيّة أيضاً، ولهذا كان انتقال السلطة له سلساً. ولأرطغرل نفسه قصّة سنرويها هنا للوقوف على أصول الدولة العثمانية بشكلٍ أكبر.
كان أرطغرل قائداً لقبيلةٍ تركية من البدو الرُّحّل تدعى "القايي" وهي التي ظهرت في مسلسل "قيامة أرطغرل"، وفي إحدى مرات ارتحاله هو وفرسانه أشرف على تلّة فوجد معركةً حامية الوطيس. وكان أحد الجيشين على وشك هزيمةٍ نكراء، فتدخَّل أرطغرل في اللحظة المناسبة فانقلبت تلك الهزيمة نصراً بسبب هذا التدخُّل، وهذا المشهد لم يُذكر في مسلسل قيامة أرطغرل.
وتحكي بعض الروايات أنّه لحسن حظّ أرطغرل كان الجيش الذي انتصر بسببه هو جيش السلطان علاء الدين كيكوبات، سلطان دولة السلاجقة، واعترافاً منه بجميل أرطغرل وتكريماً له أعطاه مقاطعة على الحدود البيزنطية ليحكمها، كما كان مقدماً لديه هو وقبيلته في نزاعاته وحروبه لرباطة جأش فرسانه وقوتهم. غير أنّ هذه الصدفة ربما كانت مدروسة بعناية من قِبَل رجل ذكي وطموح مثل أرطغرل.
ظلّ أرطغرل في منطقة "سوغوت" التجارية كما يظهر في المسلسل، متوسِّعاً على حساب الدولة البيزنطية الغارقة في مشاكلها الداخلية وقتها. توفِّي أرطغرل في عمر التسعين عام 1288، وكان ابنه عثمان شاباً في الثلاثين من عمره، وانتقلت السلطة له من قبل السلطان السلجوقي وارثاً لأبيه.
"قيامة عثمان" وقيامة الدولة العثمانية معه
رغم أنّ أرطغرل كان قد قضى كلّ حياته تقريباً في البحث عن موطن لقبيلته بدلاً من الترحال، ما جعله أيضاً يقدم لاحقاً باعتباره على الحدود مع بيزنطة على غزوها، فإنّ انتقال السلطة لابنه عثمان الشاب حرّك الدماء الشابة في إمارته، فبدلاً من أميرٍ كان في التسعين من عمره، أصبح أميرها ثلاثينيّاً شاباً.
وفي السنة الأولى لحُكمِهِ مقاطعة أبيه استطاع عثمان فتح قلعة "قرة حصار" الهامّة والتوسُّع على حساب البيزنطيين، ما جعل السلطان السلجوقي يقُرّه على الأراضي الجديدة التي فتحها ويعطيه لقب "بك" وأجاز له كتابة اسمه على العملة والدعوة له في خطبة الجمعة، وهي الطقوس التي كانت عادةً للسلاطين والملوك. وفي تلك السنة رزق عثمان بابنه وخليفته أورخان.
في عام 1300 تقريباً – أو 1299 -كانت الدولة العثمانية قد بدأت تتشكّل، فقد قضى التتار على دولة السلاجقة بقتلهم لآخر ملوكهم "غياث الدين" وانفتح بهذا لعثمان طريق سيستمر لأكثر من ستة قرون. كانت إمارة عثمان إمارة شابة، صغيرة نسبياً في الأناضول، وكان يحوطها إماراتٌ أطول منها عمراً وأوسع وأكبر، لكنّ طموح هذا الشاب وبعض الظروف المحيطة أيضاً ساعدته لإتمام حلمه: وطنٌ كبير للأتراك، ودولة قويّة.
لقّب عثمان نفسه "باديشاه" أي "السيّد الملك"، وضربت النقود باسمه ودعي له وحده في خطبة الجمعة، ليعلن استقلالاً تاماّ عن الدولة السلجوقية الآفلة.
عثمان بن أرطغرل.. استقلال وبذرة دولة طويلة الأمد
اختلفنا أو اتفقنا في تقييمنا لهذه الدولة، إلا أنّها دولة استطاعت أن تفرض نفسها في التاريخ طيلة قرنين من الزمان باعتبارها القوة الكبرى مرهوبة الجانب في الشرق وفي أوروبا أيضاً، قبل أن تنهار لاحقاً على مدار قرنين آخرين من الزمان. ومن خلال هذه المادة يمكنك الاطلاع بشكلٍ سريع على تاريخ الدولة العثمانية.
بدأ عثمان في التوسُّع غرباً، باتجاه البيزنطيين. وألزم نفسه من البداية بعدم الدخول في صراعات مع الإمارات التركية والتركمانية الإسلامية الأخرى في الأناضول، ابتعاداً عن الحرب مع المسلمين، وتوجهاً بالغزو نحو الغرب، نحو بيزنطة.
وما إن استقرّ الأمر لعثمان ونظّم دولته داخلياً وأمّن حدوده خارجياً حتّى أرسل لكلّ أمراء الأناضول من الروم يخيّرهم بين ثلاثة أشياء: الإسلام أو الجزية أو الحرب. قَبِلَ بعضهم بالجزية، ودخل بعضهم في الإسلام مثل الأمير ميخائيل كوسة الذي أصبح لاحقاً صديقاً مقرباً لعثمان، وأصبحت عائلته تعرف في الدولة العثمانية باسم "ميخائيل أوغلو".
وبقيادة ابنه الشاب أورخان استطاع أن يفرض سلطانه الكامل على العديد من هذه الإمارات الروميّة، وحاز على مدينتي أزميد إزنيك المهمتين. غير أنّ هذه المدن والإمارات التي ضمّها لسلطانه لم تثنه عن المدينة الأعظم والأكبر التي أراد حيازتها: بورصة.
بورصة.. حيث ضريح المؤسس عثمان
إذا زُرت مدينة بورصة يوماً، فعليك أن تمرّ على الجامع الكبير ببورصة ذي العشرين قبّة، الذي يضمُّ ضريح بعض السلاطين العثمانيين، كما يمكنك زيارة ضريح المؤسس عثمان غازي في حديقة طوب هانة، التي تضم إلى جانب ضريحه هو وابنه أورخان برج الساعة ونصباً تذكارياً لشهداء حرب الاستقلال التركيّة في القرن العشرين.
لبورصة قصة في التاريخ التركي. فهي أوّل مدينة كبيرة وذات أهميّة يسيطرون عليها تقريباً. وقد دام حصارها عشر سنين. بالطبع لم يكن حصاراً حول أسوارها طيلة 10 سنوات، وإنّما كان حصاراً سياسياً واقتصادياً وعسكرياً طويلاً بدأه عثمان، فبنى قلعتين كبيرتين على مقربةٍ منها ليسهل قطع الطريق عليها وعلى المدد العسكري الذي قد يأتيها.
ثمّ فتح حصن أردنوس المهمّ وسيطر عليه تماماً. بدأ حصار بورصة عام 1317 م، وسقطت المدينة بيد ابنه أورخان عام 1326 بعد حصارها بجيوش أبيه. وقد سيطر عثمان خلال هذه السنوات العشر على كلّ المدن والقلاع التي حول بورصة ليعزلها تماماً، ما جعل الإمبراطور البيزنطي يرسل لعامله على مدينة بورصة يأمره بالاستسلام.
بسقوط بورصة، عاد أورخان لأبيه ليبشره بانتصاره، فوجده في الرّمق الأخير، فزفّ إليه البشرى وعهد عثمان لابنه الصغير بالحكم من بعده، ووافته المنية عن 70 عاماً، دفن أورخان أباه في بورصة بعدما جعلها عاصمة لدولته الناشئة، واستمرّت عاصمةً للدولة طيلة 40 عاماً.
كان لأورخان أخٌ أكبر منه يدعى علاء الدين، لكنّ أباه عثمان لم يجد فيه الزعامة والقدرة العسكرية والسياسية المطلوبة لقيادة الدولة الناشئة. تفهّم علاء الدين قرار والده، وأصبح في عهد أخيه أورخان صدراً أعظم (الوزير الأوّل والرجل الثاني في الدولة)، وبينما اهتمّ علاء الدين بترتيب أمور الدولة الداخلية اهتمّ أخوه السلطان أورخان بالغزو وتوسيع رقعة الأراضي العثمانيّة.
وخلال حكم عثمان زادت رقعة الأراضي العثمانية أربعة أضعاف عمّا كانت عليه في حكم والده أرطغرل. هذه كانت قصّة المؤسس عثمان باختصار، وقصّة تأسيس الدولة العثمانيّة، في حقائقها الأولية التي لا خلاف عليها تاريخياً، بعيداً عن البُعد الدرامي في مسلسل "قيامة عثمان" أو الروايات المعادية التي تقلل من شأنه.