كانت الإمبراطورية العثمانية واحدة من أكبر القوى العظمى في التاريخ، وحكامها كانوا من السلالات الأطول عمراً أيضاً في تاريخ العالم. اتسعت بالطبع الدولة العثمانية الإسلامية في أوج قوتها إلى ما هو أبعد بكثير من تركيا الحاليّة؛ إذ امتدت حدودها من مصر وشمال إفريقيا حتى الشرق الأوسط، واليونان، ومنطقة البلقان (بلغاريا ورومانيا وألبانيا… إلخ)، وحتى بوابات عاصمة النمسا: فيينا.
وفي القرن السادس عشر (1500-1600) لم تكن الإمبراطورية العثمانية قوّةً عسكريةً مهيمنةً فحسب، بل كانت مجتمعاً متنوعاً متعدِّد الثقافات. ومع ذلك، كعادة التاريخ لم يدُم هذا المجد للأبد، فبعد حوالي قرنين من الأزمات السياسية، تفكَّكت الإمبراطورية العثمانية في النهاية بعد الحرب العالمية الأولى.
فما الذي أدَّى إلى سقوطها؟ دعونا أولاً نعود إلى بداياتها.
بدأت القصة كلها بعثمان
يُعرف عثمان غازي بأنّه والد السلالة العثمانية، وهو الأول في سلسلةٍ طويلة من القادة العسكريين والسلاطين الذين حكموا الإمبراطورية العثمانية لمدة ستة قرون. وفي الواقع، اشتُقَّت كلمة عثماني في اللغة الإنجليزية (Ottoman) من النطق الإيطالي لاسم عثمان.
وُلِد عثمان غازي في عام 1258 في مدينة سوغوت بالأناضول (في تركيا الحديثة)، وكان أبوه أرطغرل أحد "أمراء الحدود". في ذلك الوقت كانت دولة سلاجقة الروم المسلمة تعطي إقطاعات حدودية كبيرة لزعماء القبائل التركية المجاهدين، وقد كان أبوه أحد هؤلاء الأمراء.
قاد عثمان واحدةً من العديد من الإمارات الإسلامية الصغيرة في المنطقة الحدودية مع الإمبراطورية البيزنطية في ذلك الوقت، لكنّ عثمان لم يكن راضياً عن ترؤُّس مملكة محلية صغيرة، فشكَّل جيشاً من المحاربين الحدوديين الشرسين، وتقدم نحو معاقل الإمبراطورية البيزنطية في آسيا الصغرى.
ووفقاً لبعض الروايات العثمانية عن هذه الفترة، فإنّ عثمان غازي كان يحلم بتوحيد العالم كله تحت الحكم العثماني الذي يُرمَز إليه بظُل شجرة ضخمة تنبعث من جسده وتغطِّي العالم بأكمله.
تتابع خلفاء عثمان على هذه الإمارة الحدودية التي أخذت في التوسُّع على حساب جيرانها، وعلى حساب الدولة البيزنطية تحديداً، ومع صعود أورخان بن عثمان بدأت الدولة الناششة في التوسُّع أكثر، وبناء نواة الجيش العثمانيّ المخيف، المعروف بالانكشاريين، والذي أصبح الكابوس المزعج لأوروبا طوال قرنين قادمين.
كادت تنتهي الدولة.. فقد عاشت سنوات من دون سلطان
كان تيمور لنك قائداً مغولياً مسلماً وفق أغلب الروايات، كان يؤدّي الفرائص ويحضر بعض الدروس الدينية، لكنّه كان يحكم وفقاً لقانون وثني! ليس هذا فقط، بل إنّه أيضاً كاد يقضي على الدولة العثمانية التي كانت حينها في بدايات قوّتها، فقد قضى السلطان بايزيد الأوّل الملقّب يلدريم (أي: الصاعقة) على القوات الصربية، وأخذ في التوسُّع على حساب الأمراء التركمان والأتراك الآخرين في المنطقة الحدودية.
كان تيمورلنك على الناحية الأخرى يعتقد أنّ الأرض يجب أن يحكمها رجلٌ واحد، كما أنّ الله في السماء واحد، وبدأ في التحرُّش بالدولة العثمانية، وكان الصدام في معركة أنقرة عام 1402.
انتهت المعركة بسقوط بايزيد في الأسر هو وبعض أولاده، قُتل بايزيد أو انتحر في الأسر، وليس هناك رواية أكيدة حول نهايته، لكنّ الدولة تمزّقت في حربٍ أهلية بين أولاده الأربعة طيلة 10 سنوات. انتهت بعدما سيطر ابنه محمّد جلبي الأوّل على مقاليد الأمور وتخلّص من تهديدات إخوته وعمّه، وأعاد الدولة من جديد. وتعرف هذه المرحلة باسم "مرحلة الفترة" في الدولة، وهي الفترة التي كانت بلا سلطان واحد يحكم الدولة كاملةً.
الدولة العثمانية.. إمبراطورية البارود والمدافع!
في عهد حفيد محمد جلبي الأوَّل، فُتحت القسطنطينية على يد محمد الفاتح عام 1453، فرض السلطان حصاراً خانقاً على العاصمة البيزنطية، التي لحِق بها ضعفٌ شديد. وعلى الرغم من أنَّ عدد سكانها تضاءل، كانت المدينة الأسطورية لا تزال محاطة بجدرانٍ لا يمكن اختراقها. لكن العثمانيين جاءوا مزوَّدين بنوع جديد من الأسلحة: المدافع.
يقول كريس غراتيان، أستاذ التاريخ بجامعة فرجينيا الأمريكية والمشارك في تأسيس موقع Ottoman History Podcast: "كان العثمانيون من بين أوَّل من استخدم المدفعية على نطاقٍ واسع في القرن الخامس عشر". قصف محمد الفاتح أسوار المدينة المُحصَّنة لأسابيع، إلى أن تمكّن جيشه من اقتحامها، وهو ما جعل القسطنطينية، التي أصبح اسمها إسطنبول، العاصمة العثمانية الجديدة بدلاً من مدينة أدرنة، وبقيت كذلك أكثر من أربعة قرون ونصف القرن.
بإسقاط الإمبراطورية البيزنطية، يعتقد مؤرخون أنه في تلك اللحظة تحديداً وُلدت الإمبراطورية العثمانية.
دولة متعدد الثقافات
كان العثمانيون ومعظم موظفيهم مسلمين، لكنّ السلاطين والنخبة الحاكمة كانوا استراتيجيين وبراغماتيين أيضاً فيما يخص دور الدين في إمبراطوريتهم الآخذة في التوسُّع.
فبالنسبة للمعارك العثمانية في المناطق ذات الأغلبية المسلمة مثل مصر، رسَّخ العثمانيون أنفسهم على أنهم الخلافة الحقيقية من دون أن يمحوا تماماً الهيكل السياسي القائم للدولة السابقة عليهم.
أما المجتمعات غير المسلمة في جميع أنحاء البحر المتوسط، فتولوا حكم كثير من شؤونهم الخاصة أيضاً في ظل الدولة العثمانية، إذ كان المسيحيون واليهود "مشمولين بالحماية".
العصر الذهبي للإمبراطورية العثمانية
في القرن السادس عشر، وصلت الإمبراطورية العثمانية إلى أوج قوتها في ظل حكم السلطان سليمان الأول الملقَّب بـ"سليمان القانوني"، وقد دام حكمه 46 عاماً، وكان قد اعتزم جعل مملكته المتوسطية قوة أوروبية عظمى بعدما سيطر أبوه سليم الأوَّل على المشرق الإسلامي، بعد قضائه على دولة المماليك في مصر.
وقد شهدت تلك الفترة من التاريخ ذروة الهيمنة العثمانية على الصعيد العسكري والسياسي. فقد قاد سليمان بنفسه قوَّةً قتالية من النخبة التي عُرِفَت باسم الانكشارية، والتي كانت بدايات تأسيسها في عهد أورخان بن المؤسس عثمان.
تزامن عهد سليمان القانوني مع فترةٍ تمتعت فيها الإمبراطورية العثمانية بثروةٍ طائلة، نتيجة سيطرتها على بعض أكثر الأراضي الزراعية إنتاجية (في مصر)، وأكثر طرق التجارة ازدحاماً بأوروبا والبحر الأبيض المتوسط.
لكن عصر السلطان سليمان لم يشتهر فقط بالنفوذ العسكري والسياسي ووفرة المال؛ بل تميّز أيضاً بترسيخ العدالة. في اللغة التركية، كان لقب سليمان هو Kanuni أي: "رجل القانون".
وقد سعى إلى تقديم نفسه في صورة الحاكم العادل وفقاً للتقاليد الإسلامية. ففي المدن الكبرى بجميع أنحاء الإمبراطورية، كان بإمكان المواطنين إحالة نزاعاتهم إلى المحاكم الإسلامية المحلية، التي لا تزال سجلّاتها موجودة إلى اليوم.
لم يقتصر ذلك على المسلمين فحسب؛ بل شمل المسيحيين واليهود، وكذلك الرجال والنساء على حدٍّ سواء. فقد خُصِّصت أماكن تلجأ إليها النساء للمطالبة بحقوقهن، في الإرث أو الطلاق مثلاً.
كان حكم سليمان القانوني ذروة مجد وقوَّة العثمانيين، لكن بوفاته يمكننا مشاهدة بدايات الضعف التي بدأت تدبُّ في السلطنة على استحياء.
فقد بدأت روكسلانا، زوجة السلطان "القانوني"، المعروفة باسم "هُرِّم سلطان" في اللغة التركية، عصراً جديداً من القوة السياسية للنساء بالقصر، مدشنةً بنفوذها في حياة "القانوني" نفسه، ومِن بعده ابنها سليم الثاني، بدايةً لنفوذ "حريم السلطان" في السلطنة. وحكمت بسبب من إرث روكسلانا عديد من النساء العثمانيات إلى جانب أزواجهنَّ وأبنائهنَّ السلاطين.
بداية التراجع العسكري ومحاولات الإصلاحات الداخلية
في عام 1683، أي بعد وفاة "القانوني" بقرن وربع القرن، حاول العثمانيون غزو فيينا للمرة الثانية، لكن صدَّهم تحالفٌ غير متوقَّع يضم سلالة هابسبورغ الملكية والإمبراطورية الرومانية والحلف البولندي الليتواني.
ولم يقتصر الأمر على فشل العثمانيين في الاستيلاء على فيينا فحسب، لكن انتهى بهم الأمر إلى خسارة المجر وغيرها من الأراضي في الحرب التي تلت محاولة الغزو الفاشلة، ومن هنا بدأت مرحلة الانحسار لهذه الإمبراطورية الواسعة.
وبعدما كان المقاتلون العثمانيون لا يُقهَرون، توالت عليهم الهزيمة تلو الأخرى طوال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بعد إعلان مزيد من الأراضي العثمانية استقلالها أو انتزاعها من قِبل القوى المجاورة مثل روسيا.
وقد مثَّلت محاولة محمد علي باشا في منتصف القرن التاسع عشر، للاستقلال بمصر ثمَّ صراعه مع السلطان العثماني وطموحه إلى أن تكون مصر هي مركز الدولة الإسلامية الأُمّ- شوكةً كبيرة، فقد وصلت جيوش محمد علي حتى أنقرة، ولولا تحالف القوى الكبرى حينها للإطاحة بطموحاته لربما كانت الدولة العثمانية ذهبت أدراج الرياح.
لكن هذا التغير الذي أدى إلى تقلُّص الإمبراطورية العثمانية، رافقته مرونة أخرى من قِبل جهاز الدولة الإداري وسلاطينه، فقد تحوَّلت الدولة إلى نظام مركزي أكثر، وأصبحت أكثر انشغالاً بحياة مواطنيها.
فزادت الدولة من جباية الضرائب، وفتحت المدارس والمستشفيات العامة. وخلال القرن التاسع عشر، ازدهر الاقتصاد وارتفعت الكثافة السكانية بوتيرةٍ سريعة تزامناً مع تكبُّد الجيش العثماني خسائر مؤلمة. وأصبحت الإمبراطورية العثمانية أيضاً وجهة لملايين المهاجرين المسلمين واللاجئين من الأراضي العثمانية السابقة والمناطق المجاورة.
"الأتراك الشباب" وإلغاء الخلافة
في أواخر القرن التاسع عشر، جرَّبت الإمبراطورية العثمانية تبنّي نظام ملكي دستوري وبرلمان منتخب، تأثراً بالأفكار التي بدأت تنتشر في جيل الشباب العثمانيين الذين درسوا بفرنسا وأوروبا. لكنَّ هذه التجربة انتهت عام 1878، عندما حلَّ السلطان عبدالحميد الثاني المؤسسات وأعاد حكمه السلطاني الذي امتد 30 عاماً.
حاول البعض اغتيال السلطان الذي حكم حديثاً، فشلت المحاولة لكنَّها جرَّت وراءها رهبةً لدى السلطان الشاب من معارضيه، وبدأ نفوذ مخابراته السريّة في التوسُّع، كما أن دعاية الدول الأوروبية المعاندة له كانت آخذة في التزايد، خصوصاً في جيل الأتراك الشباب الذين درسوا بأوروبا؛ وهو ما أدى في النهاية إلى سقوط الدولة العثمانية.
كانت جماعة المعارضة العثمانية الرائدة في ذلك الوقت هي جمعية الاتحاد والترقي، وعُرِفَت أيضاً باسم "الأتراك الشباب". وعلى الرغم من أنَّ قادتها كانوا من الأتراك، فإنها شكَّلت ائتلافاً من المجموعات الإثنية الدينية، وضمن ذلك الأرمن واليهود والعرب والإغريق والألبان الذين هم رعايا الدولة العثمانية.
أراد الأتراك الشباب استعادة الحياة الدستورية، والحد من سلطات السلطان، واستعادة مجد الإمبراطورية العثمانية الآفلة بعض الشيء. واحتُفِي على نطاقٍ واسع بانتصارهم في الإطاحة بالسلطان عام 1908، باعتباره انتصاراً للحرية والمساواة والإخاء العثماني. لكن سرعان ما انهارت هذه الحركة؛ بعد انقسام الفصائل وتوطيد الشباب القوميين الأتراك الشغوفين، لما أصبح حكماً استبدادياً متزايداً.
تزامن مع هذه الاضطرابات الداخلية، اندلاع حرب البلقان الأولى عام 1912، والتي فقد فيها العثمانيون ما تبقى من أراضيهم الأوروبية في ألبانيا ومقدونيا. ومع اقتراب الحرب العالمية الأولى، تحالف العثمانيون الضعفاء والمتأخرون عسكرياً مع ألمانيا؛ على أمل أن تحميهم من عدوهم اللدود والتاريخي: روسيا.
انهزمت الدولة العثمانية مع حليفتها ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، وبدأت عديد من القوميات والإثنيات في الانفصال عن الدولة العثمانية، وبعضها استعمرته بريطانيا أو فرنسا. وبدأت الدولة العثمانية وقادتها الشبّان الأتراك في حربهم لمقاومة احتلال عاصمتهم إسطنبول، وهنا برز دور مصطفى كمال أتاتورك في الحفاظ على العاصمة من الاحتلال، وقيادة حرب الاستقلال ضد الغزو اليوناني المدعوم أوروبياً.
كانت الهزيمة في الحرب العالمية الأولى تمثل الضربةَ القاضية الأخيرة للإمبراطورية العثمانية، لكن السلطنة لم تتفكك رسمياً حتى عام 1922، عندما وصل زعيم المقاومة القومية التركية مصطفى كمال أتاتورك إلى السلطة، وأنشأ جمهوريةً علمانية عاصمتها أنقرة وليس إسطنبول. وفي ظل حكم الحزب الواحد "حزب الشعب"، الذي استمرّ عقوداً من الزمن، حاول أتاتورك محو المؤسسات العثمانية والرموز الثقافية، فقد غيَّر الأبجدية العثمانية من العربية إلى اللاتينية، ومنع الحجاب، وبعض الموسيقى الشرقية، وأدخل إلى البلاد القوانين الغربية، ووضع أسس تركيا الحديثة.