كتب عالم الرياضيات والفيلسوف البريطاني ألفريد نورث وايتهيد، أن كل الفلسفة الغربية ما هي إلا "سلسلة من الحواشي لأفكار أفلاطون". إذ وضع الفيلسوف اليوناني، الذي بدأ مسيرته تلميذاً مخلصاً لسقراط، حجر الأساس لأكثر من 2000 عام من الفكر الفلسفي.
وبحسب موقع How Stuff Works الأمريكي، تعد قراءة كتابات مثل (حوارات) أفلاطون، بما في ذلك "Republic" (الجمهورية)، ضرورة لكل طالب يسعى لدراسة الفلسفة دراسةً جادة، وقد أسست أكاديميته في أثينا نموذجاً للجامعة الحديثة.
الرجل الذي أثرى الفلسفة.. مَن هو أفلاطون؟
وُلد أفلاطون في بلدة كوليتوس قرابة عام 428 قبل الميلاد في الأيام الأخيرة من العصر الذهبي لأثينا. التقى سقراط في شبابه، وكان من الأتباع المقربين له، سقراط الذي حيَّر السياسيين بأسئلته الصارمة، والمعروفة الآن باسم الجدل السقراطي.
كان أفلاطون يبلغ نحو العشرين من عمره عندما هزمت إسبرطة أثينا في الحرب البيلوبونية هزيمة كارثية "خدم فيها لفترة قصيرة". وبعدما كان يفكر في التخصص في السياسة، أصيب أفلاطون بالإحباط من القادة الفاسدين والإعدام المأساوي لسقراط، بطله ومعلمه. وأصبح يعتقد أن (الفلسفة الصحيحة) هي وحدها التي يمكنها وضع حد للمعاناة الإنسانية وضمان العدالة.
حوَّل أفلاطون طاقاته إلى التعليم، وتتلمذ على يد علماء رياضيات يتبعون منهج فيثاغورس، وارتحل بين صقلية وإيطاليا ومصر. في أوائل الثلاثينيات من عمره، عاد إلى أثينا وأسس أكاديميته في إحدى حدائق اليونان المفتوحة. التي فتحت أبوابها لاستقبال كل من الرجال والنساء، واجتذبت أفضل وألمع الناطقين باليونانية في العالم، لتعلم الرياضيات والفلسفة الطبيعية.
لم يتزوج أفلاطون قط، ولم يُرزق بأطفال. ومع أنه توفي في أوائل الثمانينيات من عمره، فهو يعيش بيننا داخل أسئلته العميقة المذهلة والمثيرة للتفكر، والتي سجّلت في 30 حواراً حيوياً ومعقداً، وهي التي كوّنت كتابه "حوارات أفلاطون".
ما حوارات أفلاطون ؟
قراءة أحد حوارات أفلاطون أشبه بالاستماع إلى محاضرة ممتعة، إذ تماثل بنية الحوارات الأعمال الدرامية الفكرية، إذ يؤدي سقراط في كثير من الأحيان دور الشخصية الرئيسية. نرى فيها سقراط يستوجب غيره من الأثينيين ويستخلص منهم الإجابات، ويكشف عن مدى مراوغة الحقائق البسيطة.
يدين أفلاطون في حواراته المبكرة لسقراط بالكثير، الذي لم يُخلف نتاجاً كتابياً خاصاً به، إلا أن أفكار سقراط نفسها تظهر في أعماله الوسطى واللاحقة. مع ذلك، يختلف أفلاطون عن سقراط في أنه لا يهوي على دماغ القارئ بطريقة تفكيره وفلسفته، لكنه يفضل اتباع نهج غير مباشر يدفع القارئ لاستخلاص استنتاجات بنفسه.
يقول إريك براون، أستاذ الفلسفة بجامعة واشنطن في سانت لويس: "في حواراته، لا يملي أفلاطون إجاباته ثم أسبابه على القارئ. ثم يطلب من القارئ قبولها على مسؤوليته الخاصة. يريد أفلاطون إلهام الناس لدراسة الفلسفة والتفكير فيها من تلقاء أنفسهم.
وهذا ما تفعله الحوارات؛ إنَّها تترك الكثير من الأسئلة مفتوحة أمامهم، دون حسم الأمور. أعتقد أنَّ هذا هو أحد الأسباب التي جذبت الكثير من القراء لأعمال أفلاطون على مر القرون. فهو يشجع القارئ على بذل مجهود أكبر، وهو ما قد نراه ملهماً".
ويمكن القول إن أفلاطون لديه مبدأ أساسي، هو مفهوم "المُثُل"، أي فكرة أن العالم الذي نتخيله بحواسنا الجسمانية معطوب، وأن هنالك عالماً منفصلاً به مُثُل أبدية ومُحكمة، يفوق إدراكنا. وهذه المُثُل هي أفكار مجردة مثل الجمال، والمساواة، والخير، والوجود، والمعرفة.
وتطلق على هذه الفلسفة الأساسية "الأفلاطونية"، ويُعرف الفلاسفة الذين تبنوها على مدى آلاف السنين بالأفلاطونيين.
يقول براون: "الأفلاطونية هي الفكرة القائلة إن هناك حقائق، أو أسباباً، أو مبادئ مجرّدة لا يمكن إدراكها، لكن فقط التفكّر فيها. وعندما نصل إلى ذلك، نصبح أكثر قدرة على فهم طريقة سير العالم، وأكثر قدرة على عيش حياة طيبة".
هكذا غيّر أفلاطون الفكر الفلسفي لدى الإنسان .. ما بين المأدبة والجمهورية
هناك العديد من الحوارات الممتازة لأفلاطون، بما في ذلك "Symposium" (المأدبة) . يناقش "المأدبة" الحب، بما في ذلك "الحب الأفلاطوني" -وهو مصطلح لم يستخدمه أفلاطون قط بالمناسبة- وهو شكل للحب له أبعاد أكثر بكثير من مجرد كونه يمثل العلاقات غير الجنسية.
إذ يفرق أفلاطون بين ما يسمى (القوة الإيروسية الإلهية)، و(القوة الإيروسية المبتذلة)، ويُعرف الأولى بأنها حب يتجاوز الانجذاب الجسدي (الإيروسية المبتذلة) ليصل إلى الجمال الأسمى، أو يجعل المرء يفكر في أشياء روحانية. إلا أن أكثر أعمال أفلاطون قراءةً هي بلا شك "Republic" (الجمهورية).
يقول براون عن الجمهورية: "يغطي أفكاراً كثيرة، فهو يشمل بعضاً من أفكار أفلاطون السياسية، وقليلاً من أفكاره الروحانية حول معنى أن تعيش حياةٍ طيبة، ومعنى أن تفهم العالم من حولك. أو كيف تحدث عملية التدريس وماهيتها من الأصل".
في "الجمهورية"، طرح أفلاطون عدداً من المقترحات الجريئة، بما في ذلك القول إنَّ المدينة المثالية (الفاضلة) تحكمها فئة من الحكام الفلاسفة من الذكور والإناث. يعتقد براون أن أفلاطون حاول بوضوح استفزاز الناحية الفلسفية في قرائه.
وبحسب براون: "كان (الجمهورية) مكتوباً بوضوح بهدف استفزاز قارئيه. فالفكرة القائلة إن أي مدينة لا يحكمها فيلسوف، غير خاضعة لحكم رصين، هي فكرة شاذة".
كهف أفلاطون
واحد من أكثر الأجزاء الهامة في كتاب "الجمهورية" هو "The Allegory of the Cave" (المعروف باسم كهف أفلاطون)، الفكرة التي سردها أفلاطون على لسان سقراط، وتحكي عن مجموعة من الأسرى المقيدين داخل كهف مظلم مضاء بضوء النار الخافت. تكمن معرفتهم الوحيدة للعالم الخارجي في الظلال التي ترقص على جدران الكهف، وأصداء ضعيفة لأحاديث تدور بالخارج.
إلا أن أحد الأسرى تمكّن من الفرار، واكتشف وجود واقع كامل خارج الكهف. يحرق سطوع الشمس عينيه، لكن معرفة الحقيقة تستحق هذا الألم. وعندما يرجع إلى الكهف ويعرض على زملائه الأسرى إطلاق سراحهم، يسخرون من تفسيراته لظلالهم المألوفة المحببة، ويقررون قتله.
هنا مرة أخرى، يعود أفلاطون بنا إلى مفهومه القائل إن الحقيقة موجودة خارج تصورنا المحدود. يعتقد براون أن حكاية كهف أفلاطون تتحدث بالتحديد عن جوهر التعليم.
يقول براون: "التعليم الحقيقي لا يعني تجرع المعلومات، بل هو تغير روحاني، وإعادة توجيه للقيم. يرى أفلاطون أنه عندما يتوقف المرء عن فهم العالم بناءً على ظاهره فقط، وتصديق آراء الآخرين بشأن ما هو مهم، ثم يبدأ في البحث عما هو أبعد من مجرد تلك المظاهر، حينها يمكن القول إنه متعلم فعلاً".
إرث أفلاطون
يقول إريك براون الذي يُدرَّس نظريات أفلاطون في جميع الفصول الدراسية بجامعة واشنطن، إن حوارات أفلاطون ما زالت قادرة على تفتيق عقول الطلاب، وتحدى قرائها لاستكشاف بعض من أكبر الأسئلة، الممثلة في كيف نعرف، وكيف نعيش.
ويختم براون حديثه قائلاً: "يطرح أفلاطون أسئلة ما تزال تستحق الطرح بطريقة تشاركية تستفز العقل للعمل، كما تُعتبر أسئلته واحدةً من أفضل الطرق للحثّ على دراسة الفلسفة أو التعمق فيها. لهذين السببين، سيظل أفلاطون مهماً دائماً..وهكذا غيّر أفلاطون الفكر الفلسفي لدى الإنسان".