في زمن كانت السياسة فيه حكراً على الرجال ولم يكن معهوداً أن تتولى امرأة الحكم أو تتدخل في تدبير شؤون الدول، لمع نجم امرأة عرفت بـ "السيدة الحرة"، وباتت حاكمة لتطوان وقادت حملات بحرية ضد الإسبان والبرتغاليين بالتعاون مع القائد العثماني خير الدين بربروس.
فمن هي هذه السيدة الأندلسية التي أجلَّها المسلمون فسموها "أميرة الجهاد البحري في المغرب"، وهابها الإسبان والبرتغاليون فأطلقوا عليها لقب "ملكة القراصنة"، وباتت بحسب ما وصفها المؤرخون واحدة من أهم الشخصيات النسائية في الغرب الإسلامي في العصر الحديث؟
السيدة الحرة، من غرناطة إلى المغرب
في عهد ملوك الطوائف، وتحديداً عندما بدأت ممالك الأندلس تتساقط واحدة تلو الأخرى في أيدي الإسبان وُلدت السيدة الحرة في غرناطة في العام 1485، وهي ابنة الأمير مولاي علي بن موسى بن رشيد العلمي.
لا نعلم ما هو اسمها الحقيقي على وجه التحديد، فبعض المؤرخين قالوا إن اسمها فعلاً "الحرة"، فيما قال آخرون إن اسمها "عائشة"، وأن السيدة الحرة ما هو إلا لقب كانت تكنى به بعض النساء المسلمات في ذاك الحين، وكانت السيدة الحرة التي حكمت تطوان ولقبت بأميرة الجهاد البحري في المغرب آخر من أطلق عليها هذا اللقب.
في العام 1492، وقبيل سقوط مملكة غرناطة على يدي ملوك الإسبان فرناندو الثاني وإيزابيلا الأولى، فرت عائلة السيدة الحرة إلى المغرب وأسس والدها مدينة شفشاون ليصبح أميراً عليها، مستقلاً بذلك عن الوطاسيين (وهم إحدى فروع قبيلة زناتة الأمازيغية في المغرب، الذين أسسوا الدولة الوطاسية حيث اتخذوا من فاس عاصمة لهم).
تلقت السيدة الحرة تعليماً وصفه المؤرخون بأنه من الدرجة الأولى، وكانت تتحدث العديد من اللغات بينها الإسبانية والبرتغالية، كما برعت في اللاهوت والرياضيات.
وكان العالم الإسلامي ذائع السيط في المغرب عبدالله الغزواني واحداً من أساتذتها، والذي قال فيها لما خبره من فطنتها وذكائها "هذه البنت سترتفع في المراتب".
أهم الشخصيات النسائية في الغرب الإسلامي
كان زواج السيدة الحرة من أمير تطوان علي المنظري الذي يكبرها بثلاثين عاماً، مدبراً من قبل والدها منذ أن كانت طفلة، فقد كان هذا الزواج بمثابة تحالف بين إمارة شفشاون وإمارة تطوان من أجل تقوية جبهة الدفاع ضد البرتغاليين المحتلين لثغور شمال المغرب.
فما إن بلغت السيدة الحرة سن السادسة عشرة، حتى عقد قرانها على المنظري من جهة وأصبح أخوها وزيراً في فاس من جهة أخرى ليعززا بذلك مكانة أسرتهما في المغرب.
وبسبب ذكائها وحكمتها لم تكن السيدة الحرة زوجة لحاكم تطوان فحسب، بل أصبحت أيضاً نائبة عن زوجها في غيابه تشاطره السلطة وتقوم بدور الحاكمة عندما يغيب زوجها وتبت في الكثير من القضايا حتى في حضوره.
اكتسبت السيدة الحرة أثناء عملها إلى جانب زوجها خبرة في الحكم وحنكة سياسية إلى جانب حكمتها وحسن تدبيرها، هذه العوامل جعلت مواطني تطواني يتقبلون أن تولى عليهم امرأة في زمن كان الحكم فيه حكراً على الرجال، فتولت حكم تطوان بعد وفاة زوجها المنظري في العام 1515.
ويقول المؤرخون إنها في هذا العام حصلت رسمياً على لقب "السيدة الحرة"، وبدأت أولى خطواتها لتكون واحدة من أهم الشخصيات النسائية في الغرب الإسلامي في العصر الحديث.
أميرة الجهاد البحري أم ملكة القراصنة؟
لعبت السيدة الحرة دوراً شديد الأهمية في المنطقة بعدما استلمت حكم تطوان عقب وفاة زوجها، بعد أن نجحت في توطيد حكمها في تطوان التي وصلت في عهدها إلى مستوى غير مسبوق من الرخاء، وأمنت المدينة عسكرياً بشكل جيد.
في تلك الفترة، كانت الأندلس قد سقطت بأيدي الإسبان، بينما احتل البرتغاليون مناطق من الساحل الغربي للمغرب.
وبالرغم من أن السيدة الحرة لم تعش إلا فترة بسيطة من طفولتها في غرناطة إلا أنها لم تنس مسقط رأسها أبداً، وكان الرجوع إلى الأندلس هو الحلم الذي دفعها إلى تشكيل جيش للجهاد البحري في منطقة البحر الأبيض المتوسط الغربي، إذ كان مرابطاً بمنطقة مرتيل القريبة من تطوان.
وإلى جانب صدها لهجمات الإسبان والبرتغاليين على سواحل المتوسط، ذكر المؤرخون الإسبان أن السيدة مارست القرصنة على السفن التجارية البرتغالية والإسبانية مما أكسبها أموالاً كثيرة استخدمتها في تقوية جيشها وتدعيم مكانتها في تطوان.
وبينما أطلق عليها المسلمون لقب أميرة الجهاد البحري في المغرب، أطلق عليها البرتغاليون والإسبان لقب ملكة القراصنة.
تعاونها مع خير الدين بربروس
لطالما أرادت السيدة الحرة الثأر من الإسبان لما فعلوه بمسلمي الأندلس، فتعاونت مع القائد العثماني خير الدين بربروس الذي ذاع صيته في بلاد المغرب لما ألحقه من هزائم بالقوى الأوروبية وعلى رأسها إسبانيا.
كان خير الدين بربروس أحد أشهر القادة البحريين المجاهدين في سواحل شمال إفريقيا في العهد العثماني، وكما هو معروف فقد ساهم بإنقاذ مسلمي الأندلس من محاكم التفتيش الإسبانية، التي كانت تعتمد على مبدأ التطهير العرقي في التخلص منهم.
وحدة الهدف دفعت السيدة الحرة للاتفاق مع بربروس على تقاسم مناطق الجهاد، ففي حين أشرفت هي على غرب المتوسط من جهة المغرب، قاد هو العمليات في شرق المتوسط من جهة الجزائر.
وتحت قيادتها استطاع جيش السيدة الحرة تأمين القسم الغربي من سواحل المتوسط بشكل كامل، وقد زرعت الرعب في قلوب البرتغاليين والإسبان لدرجة أن أولئك كانوا يصلون حتى يرونها معلقة يوماً ما على ناصية إحدى سفنهم، كما ذكر بعض المؤرخين.
فرضت شروطها على السلطان
إلى جانب الدولة الوطاسية في شمال المغرب والتي اتخذت من فاس عاصمة لها، والإمارات المتفرقة مثل تطوان وشفشاون، ظهرت الدولة السعدية في جنوب المغرب والتي بدأت تنافس الوطاسيين على الحكم.
وفي عام عام 1541 ارتأى السطان أحمد الوطاسي أن يتزوج من السيدة الحرة لتقوية الدولة الوطاسية، لا سيما بعض ظهور السعديين.
كانت السيدة الحرة من القوة بمكان ما جعلها تملي شروطها على السلطان، فرفضت القدوم إلى العاصمة فاس بل جعلت السلطان بذاته يأتي إلى تطوان بحشد كبير من حاشيته وجيشه وعدد من العلماء والمشايخ لإتمام الزواج.
وقد كان ذلك خروجاً عن العادات السلطانية آنذاك، ورده المؤرخون إلى قوة شخصية السيدة الحرة ورغبتها بأن تظهر لأهالي تطوان بأنها لا تنوي التخلي عن الحكم بزواجها الثاني.
وبعد إتمام الزواج عاد السلطان إلى فاس ثانية مخلفاً السيدة الحرة في مكانها على عرش تطوان.
شفشاون، المحطة الأخيرة
بعد زواج السيدة الحرة من السلطان وجد أفراد أسرة المنظري أنفسهم خارج دائرة الحكم، فاستاؤوا من ذلك وبدؤوا بحياكة المؤامرات للإطاحة بحكم السيدة الحرة والتفرد بحكم تطوان.
وقد ساعدهم على ذلك ضعف الدولة الوطاسية وصعود الدولة السعدية، وعداوة حاكم سبتة مع السيدة الحرة لدعمها الجهاد البحري، مما أدى إلى قطع العلاقات التجارية بين البلدين وبالتالي تدهور الوضع الاقتصادي لتطوان.
فقامت جماعة من عائلة المنظري بقيادة محمد الحسن المنظري وهو أحد أقرباء زوج السيدة الأول، بالهجوم على مقر حكمها في تطوان، حيث استولوا عليه في العام 1542، وأعلن محمد الحسن نفسه حاكماً على المدينة وطرد السيدة الحرة بعد الاستيلاء على ممتلكاتها وأعلن كذلك الاستقلال عن فاس.
عاشت السيدة الحرة آخر أيامها بمدينة شفشاون، بالقرب من أخيها الأمير محمد، وبعد موتها دُفنت في رياض الزاوية الريسونية، حيث لا يزال قبرها هناك معروفاً باسمها إلى اليوم.