ظهرت في مسلسل ممالك النار فرقة عسكرية – دينيّة تدعى الجهاردية كانت لديها تفسيراتها الخاصّة لنصوص القرآن الكريم وطريقتها الدموية في التحكم بقادة المرحلة تارة عبر إعدامهم وتارة عبر دعمهم. هذه الفرقة هي التي ساعدت السلطان سليم الأول في دخول مصر – وفقاً للمسلسل – بالتخطيط لاغتيال أعدائه تارة، وباختراع الدعاية الدينيّة، وبرسم بعض خططه تارة أخرى. فمن هم الجهارية؟
قائد هذه الفرقة، المُسمّى بـ "الكامل" ظهر بدايةً وهو يشرح للسلطان سليم الأوّل أنّه هو "المُنتظر" الذي سيغزو الشرق (يقصد الشام ومصر)، وسيوحّد المسلمين.
لكنّ هذا الرجل الذي يبدو أنّه يهتمّ لشؤون المسلمين، هو نفسه الذي تعاون مع البرتغاليين ليُغيروا على سواحل الحجاز، ليشاغلوا المماليك ويختبروا قوّتهم أيضاً.
قال "الكامل" للسلطان سليم، في إحدى الحلقات، إنّه هو "المختار"، لأنّ اسمه يعني بما سماه "علم الحرف" رقم 14، واعتبر أنّ تفسير دخول سليم الشام ومصر يظهر في الآية 105 من سورة الأنبياء (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ).
وعلم الحرف هو أحد العلوم الباطنية التي ظهرت في فارس (إيران الحالية) قديماً، ويقال إنّها تنسب للإمام جعفر الصادق حفيد علي بن أبي طالب.
ومن هنا بدأ الجمهور العربي يتساءل عن أصل الجهاردية، وهل هناك فرقة بهذا الاسم بالفعل في التاريخ الإسلامي؟
من هم الجهاردية؟ وهل هم حقيقيون؟
وبدأت بعض الإجابات تظهر، فاعتبر البعض أنّ الجهاردية هم "الحروفيّون" وهي فرقة ظهرت في فارس وانتشرت لاحقاً من خلال الطريقة البكتاشيّة في تركيا. ويشتهر هؤلاء بتفسيراتهم "الباطنيّة" لنصوص القرآن الكريم وارتباطهم بالسلطة أيضاً، وتعاليمها مُستمدة من تعاليم الشيعة الإسماعيلية.
لكنّ الجهاردية الذين تمّ تقديمهم في المسلسل، كانت لهم سماتٌ أخرى غير سمات طائفة الحروفية والطريقة البكتاشية، فبدل ارتباطهم بالسلطة، أصبحوا هم المتحكّمين في السلطة، وفي توجيه حتّى السلطان نفسه.
ليس هذا فحسب، بل قاموا باغتيالاتٍ سريّة، إذ قتلوا زوجة السلطان قانصوه الغوري وحاولوا اغتيال طومان باي، وساعدوا سليم الأول في القبض على عدوّ الدولة العثمانية "شاه قولي"، كما تعاونوا مع البرتغاليين ضد المسلمين المماليك، وغيرها من الأحداث التي تنطبق أكثر ما تنطبق على فرقةٍ أخرى في التاريخ الإسلامي غير فرقة الحروفية أو البكتاشيّة.
وكان اللافت في هذه الفرقة الباطنية تفسيرها المختلف للنصوص القرآنية، وقدراتها العسكرية فائقة، وقدرتها على اغتيال أمراء وسلاطين وكبار الوزراء أيضاً.
قائدهم لا يقل غموضاً، وتعاونوا مع الصليبيين ضد المسلمين، وكانوا يدعون لخليفةٍ آخر غير سليم الأول، فقد كانوا يدينون بالمذهب الإسماعيلي الشيعي ويعتقدون في إمامة الخليفة الفاطمي في مصر.
ويبدو أنّ صنّاع المسلسل قد صنعوا الجهاردية لأسبابٍ دراميّة ليست تاريخيّة، واستدعوا بعض تفاصيل وقدرات وسمات طائفة "الحشاشين" وقائدهم "حسن الصباح" لينتجوا فرقة الجهاردية التي ساندت سليم الأول وساعدته لإحكام سيطرته على المشرق (الشام ومصر).
فما هي قصّة طائفة الحشاشين تلك؟
البداية من مصر هذه المرّة!
بعد وفاة الخليفة الفاطمي المستنصر بالله في القاهرة نشب صراعٌ على خلافته. الوزير القوي الأفضل شاهنشاه، كان له ابن أخت صغير في السن من السلطان اسمه "المستعلي بالله"، بينما كان ابن السلطان الأكبر "نزار المصطفى لدين الله" هو خليفته الطبيعيّ.
لكنّ الوزير القوي، الذي يتحكّم في كلّ مفاصل الدولة وورث الوزارة من أبيه بدر الدين الجمالي، قرّر إعطاء الخلافة لابن أخته الصغير، ليضمن سلطةً كاملةً على الخلافة الفاطمية.
ثار نزار – الوريث الشرعي – لكنّ الوزير الأفضل شاهنشاه قبض عليه وأودعه السجن، فجأةً وبعدما سُجن هُدم السجن عليه، وانتهى من الوجود اسم نزار المصطفى لدين الله وانتهت معه آماله، نسبياً.
بالتزامن مع هذه الأحداث، وُلد شابّ في مناطق فارس اسمه حسن الصبّاح، وقد ذكر بعض المؤرخين أنه وُلد في مدينة قُم معقل الشيعة الاثني عشرية.
درس حسن الصباح العلوم الشرعية والعلوم الدنيويّة معاً، واعتنق المذهب الإسماعيلي المذهب الرسميّ للخلافة الفاطمية.
غادر حسن الصباح بلاده بعدما انتمى للمذهب وجاء إلى القاهرة، ومكث فيها قرابة السنتين، مبشِّراً بالخليفة الجديد نزار، وما إن سيطر الأفضل على مقاليد الحكم حتّى ضايق حسن الصباح الذي كان من أبرز الدعاة للخليفة المقتول.
هرب الصبّاح من قبضة الوزير في مصر، ويقال إنّه سُجن في الإسكندرية قبل أن يتمكّن من الهرب.
ثم غادر الأراضي المصرية وهامَ على وجهه في ربوع بلاد فارس، حتّى وصل إلى قلعته الشهيرة التي كانت مركزاً لعملياته العسكرية الفريدة من نوعها: قلعة آلموت!
قلعة آلموت الرهيبة!
بعدما هرب حسن الصبّاح من قبضة الوزير الفاطميّ، سيطر عام 1090 على هذه القلعة، وهي قلعة رهيبة، بُنيت على قمة جبل شاهق فى خراسان على ارتفاع 2100 متر.
من هذه القلعة سيُطلق حسن الصبّاح جنوده، الذي كان يرغب من خلالهم بالقضاء على أهمّ دولتين إسلاميّتين في ذلك الزمن: دولة السلاجقة المدعومة من العباسيين، ودولة الفاطميين التي انقلبت على خليفته وإمامه الفاطميّ: نزار المصطفى لدين الله.
اختلفت الروايات حول هذه القلعة الحصينة، فقيل إنّ معناها: بيت العُقَاب – وهو طائر أسطوري – أو (بيت النّسر).
ويقال إنّ الذي بناها أحد الحكّام المحليين، وهي تبعد عن طهران الحالية بـ100 كم فقط.
العجيب في هذه القلعة الحصينة، التي ليس لها سوى طريق واحد عبر منحدرٍ جبلي، هو معتقدات الطائفة التي احتمى داخل أسوارها وعملياتها العسكرية الخاطفة، وأيضاً في شخصية مؤسسها الذي لم يغادر القلعة منذ دخلها وحتّى وفاته بعد 35 عاماً كاملة.
كان حسن الصباح عالماً فعلاً بعلوم الدين وكذلك بعلوم الفلك والطبّ والكيمياء، وفي نفس الوقت كان عسكرياً فذّاً، فقد درّب أعضاء فرقته على الاغتيالات الفريدة من نوعها.
ليس هذا فقط، بل دربهم على استقبال الموت بشكلٍ مغاير لاستقبال البشر له؛ فعندما كانوا يقتلون أميراً أو وزيراً كبيراً لم يهربوا، بل كانوا يظلُّون واقفين مسمّرين في مكانهم مستسلمين للقتل من الأطراف الأخرى، وفي هذه رسالة لأعدائهم: نحن لا نهاب الموت أبداً.
لماذا يسمون بالحشاشين؟
أحاطت بهذه الطائفة الكثير من الأساطير، وقيل إنّ حسن الصبّاح كان يعطي تلاميذه وفرسانه حشيشاً فيكونون غائبي الوعي حينما يغتالون ضحاياهم، وقيل لهذا السبب سمّوا بالحشاشين، لكنّ السبب الحقيقي لتسميتهم بالحشاشين غير معروف، وأيضاً حقيقة تناولهم الحشيش ليست ثابتة، لكنّ الثابت أنّهم كانوا قتلةً محترفين للغاية.
ابتدع حسن الصباح نظاماً صارماً لمريديه، حتّى إنّ بعض المصادر تذكر أنّ الصبّاح قتل ولدَيه بنفسه لتمرّدهما على بعض القواعد المفروضة على القلعة وساكنيها. وبدأ الصبّاح بعدما ثبّت قدمه في قلعة آلموت يرسل قاتليه المحترفين لأعدائه.
كان أكبر وأهمّ ضحايا الصبّاح هو وزير السلاجقة الشهير "نظام الملك"، الذي رافق السلطان السلجوقيّ الشهير ألب أرسلان وزيراً له، وأكمل وزارته في عهد ابنه جلال الدولة مُلكشاه.
وفي نهاية عهد ملكشاه وأثناء موكبٍ كبيرٍ للسلطان اغتال الحشاشون الوزير الأبرز في الدولة السلجوقية، والذي يمكن اعتبار وفاته سبباً من أسباب تفتُّت الدولة السلجوقية.
كان مقتل نظام الملك عام 1092، أي في بداية تأسيس الطائفة أو الفرقة الغامضة، وبعد هذا التاريخ بحوالي 29 عاماً ثأر حسن الصبّاح لخليفته المقتول نزار.
ففي يوم عيد الأضحى من سنة 1121م، اُغتيل الأفضل شاهنشاه الذي قتل الوريث الشرعي للخلافة الفاطمية الذي كان يدعو له الصبّاح ويعتبر من أتباعه.
لكنّ بعض المؤرخين يشكك في هذه الرواية، معتبراً أن الذي اغتاله هو الخليفة الفاطميّ الجديد: الآمر بأحكام الله.
حاولوا اغتيال صلاح الدين الأيوبي
توفّي حسن الصباح عام 1124م، في قلعة آلموت، تاركاً خليفته كيا بزرك آميد ليواجه أعداء الحشاشين، وقد أبلى بزرك آميد بلاءً حسناً فقد كان "حشاشاً" قوياً وأحد كبار الدُّعاة للمذهب "النزاري" الذي بدأه حسن الصبّاح.
استمرّ الحشاشون في معاركهم مع أعدائهم الرئيسيين السلاجقة (الذين يدعمون الخليفة العباسي)، ودخلوا شيئاً فشيئاً في السياسة أكثر، وانفصلوا عن دعوتهم نسبياً، فبدأوا يسيطرون على القلاع الحصينة، حتّى وصل عدد قلاعهم إلى 8 قلاع حصينة.
بعد ذلك انخرطوا في معاركهم الأخرى مع تطوّر الأحداث.
وكان أحد أبرز أعدائهم في فترةٍ من الفترات القائد المسلم المشهور السلطان صلاح الدين الأيوبي.
وقد حفظ التاريخ لنا محاولتهم قتله مرتين متتاليتين جُرح في إحداهما، وقد حفظ التاريخ أيضاً مراسلات شديدة اللهجة بين الأيوبيّ وبين قائد الحشاشين "سنان شيخ الجبل".
بعد ذلك، قرر صلاح الدين محاصرتهم عام 1176م، فضرب الحصار على قلعة مصياف، وهي أكبر قلاع الحشاشين في الشام وتقع في حماة، لكنّه لسببٍ غير معلوم رفع الحصار، ويعتقد بعض المؤرخين أنّ صلاح الدين عاد واستخدمهم لاحقاً في اغتيال بعض القادة الصليبيين في الشام.
أمّا قلعة آلموت فكان مصيرها الدمار عام 1256م؛ في طريق هولاكو لغزو بغداد، عاصمة الخلافة العباسية حينها، مرّ على قلعة آلموت وضرب الحصار، واستسلم له آخر أمراء الحصن "ركن الدين خورشاه"، الذي يبدو أنّه كان ضعيفاً.
دمر هولاكو القلعة بالكامل، حارقاً مكتبة القلعة العظيمة التي بدأ إنشاءها حسن الصباح نفسه، وكانت مأوى للحشاشين على مدى 166 عاماً.