ألهمت آن بولين مخيلة الشعوب التي نسجت عنها الأساطير، كما ألهمت مخيلة الكتاب والشعراء الذين جعلوا منها بطلة قصصهم وقصائدهم.
ولا عجب في ذلك، فقد استطاعت تلك الفتاة الاستثنائية أن تدفع ملك إنجلترا لتحدي سلطة كنيسة روما الكاثوليكية ومخالفة تعاليم المسيحية، والتخلي عن زوجته السابقة، وجعل بولين من أغنى نساء العالم في ذلك الزمان وأكثرهن نفوذاً.. فكيف وصل الأمر بالملك المتيم إلى اتهام حبيبته بزنا المحارم وقطع رأسها أمام العامة؟
الملك يغوي آن بولين كما أغوى شقيقتها
حكم هنري الثامن إنجلترا منذ عام 1509 حتى وفاته عام 1547، انفصل هنري خلال فترة حكمه عن كنيسة روما الكاثوليكية متحدياً السلطة الباباوية، وطالب بحقّه في عرش فرنسا، وتزوج من ست نساء، قطع رأس اثنتين منهن، إحداهن كانت آن بولين.
أثناء ارتباطه بزوجته الأولى كاثرين الأرغوانية، كان لدى الملك عشيقة من أسرة نبيلة تدعى "ماري بولين"، وقد ظلَّ هنري الثامن متيماً بها إلى أن التقى بأختها الأصغر "آن" في إحدى المرات ببلاطه الملكي، ومنذ ذلك اليوم بدأت مساعي الملك المحمومة لإغواء آن دون جدوى.
كانت آن فتاة مثقفة متعددة المواهب، تجيد الرقص والغناء والعزف على آلة الفلوت، وتبرع في الخطابة والفلسفة، كما أن جمالها وحضورها الطاغي جعل جميع شبان البلاط يتنافسون عليها، وقد كان الملك هنري من بين المتنافسين.
إلا أن آن لم تكن لترضى بدور العشيقة كما فعلت أختها، وكان شرطها الوحيد للقبول بالملك الذي بقي فترة طويلة يتودَّد إليها محاولاً إيقاعها بشباكه هو أن تصبح ملكته.
هنري الثامن يتحدَّى سلطة الكنيسة من أجل آن
رغبة هنري في الانفصال عن زوجته الأولى كاثرين لم يكن سببها حبه لآن فقط، بل رغبته الشديدة أيضاً في إنجاب وريث لعرشه.
فقد أجهضت كاثرين عدة مرات، ومات أطفالها الذكور كلهم بعد أيام من إنجابهم، ولم ينج سوى ابنةٍ وحيدة هي ماري، التي لم تكن تصلح لولاية العهد بنظر والدها الملك.
إلا أنَّ زواج هنري الثامن مرة أخرى إلى جانب زوجته الأولى كاثرين يعتبر مخالفة صريحة للتعاليم المسيحية الكاثوليكية، وكذلك إلغاء زواجه من كاثرين.
وفي سبيل حصول التماس من بابا الكنيسة الكاثوليكية في روما يسمح للملك بإلغاء زواجه من كاثرين والارتباط بآن، خاض هنري الثامن العديد من الحروب التي أفضت إلى انفصال كنيسة إنجلترا عن كنيسة روما والسلطة الباباوية، وحل الأديرة وتعيين هنري لنفسه رئيساً لكنيسة إنجلترا.
آن بولين ملكة إنجلترا
كانت آن حتى قبل زواجها من الملك صاحبة سلطة سياسية في إنجلترا، فقد كانن لها سلطة قبول الالتماسات ومقابلة الدبلوماسيين، والتوسّط لدى الملك، كما منحت لقب "ماركيزة بيمبروك"، لتصبح بذلك من أغنى وأهم النساء في المملكة.
وقد تعزَّزت مكانتها أكثر عندما نجحت أخيراً في الزواج من هنري الثامن بعد إلغاء زواجه من كاثرين، التي تم تنحيتها عن القصر الملكي، وجُردت من لقبها كملكة، بينما تُوجت آن مكانَها بتاج القديس إدوارد، وهو التاج الذي كان يستخدم لتتويج الملوك.
وعلى الرغم من زواج الاثنين إلا أن كثيراً من العامة لم يعترفوا بصحة هذا الزواج، وكانوا يعتبرونه باطلاً دينياً، ومن جهة أخرى رفض بعض النبلاء والأساقفة هذا الزواج، لمخالفته للتعاليم الدينية، فتم سجنهم جميعاً في برج لندن.
لعبت آن بولين دوراً مهماً في سياسة إنجلترا الخارجية، إذ سعت إلى توطيد العلاقة مع فرنسا بعد عهد من الاضطرابات بين البلدين، كما كانت لها سلطة واسعة مكّنتها من التخلص من جميع أعدائها السياسيين.
وقد كان العامة يصفونها بـ "عاهرة الملك"، إذ يلقون باللوم عليها في سياسات زوجها الظالمة من جهة، وفي بذخها وتبديدها للأموال من جهة أخرى، على الرغم من أنهم تعاطفوا معها في نهاية الأمر، بعد المصير الذي لقيته من زوجها.
السحر كان سبباً في الزواج الملكي
حملت آن من الملك فور زواجهما، وقيل إنها كانت حاملاً قبل ذلك، إلا أن الخبر المفجع لكليهما كان أن المولود أنثى، سميت إليزابيث، التي حكمت إنجلترا بعد ذلك لأعوام عديدة.
فشلت آن في محاولتها الأولى بإنجاب الوريث الذكر المنتظر لهنري الثامن، أما محاولاتها التي تلت ذلك فقد كان مصيرها الإجهاض تماماً مثل كاثرين سابقتها.
وفي ظل إجهاضاتها المتكررة، وحصول الملك على عشيقة جديدة بدأت الخلافات بين آن وزوجها بالتزايد، لاسيما أنها باتت حادة الطباع وسريعة الانفعال.
ووصل الأمر بالملك إلى أنه أعلن أن آن دفعته إلى هذا الزواج عن طريق السحر، كما قام بنقل عشيقته الجديدة، جين سيمور، لتسكن في القصر الملكي.
اتهام بزنا المحارم
هناك عدة روايات حول نهاية آن بولين واتهامها بالزنا، وزنا المحارم، فبعض المؤرخين يقولون إن هذه الاتهامات التي وُجهت لها ما هي إلا مكائد نسجها وزير الملك آنذاك، توماس كرومويل.
فبالرغم من أن العلاقة كانت طيبة بين آن بولين وكرومويل في البداية، فإنهما اختلفا حول سياسة إنجلترا الخارجية، إذ كانت آن تميل إلى توطيد العلاقات مع فرنسا على عكس كرومويل، الذي يفضل توطيد العلاقات مع روما.
كما اختلف الاثنان بحسب المؤرخين على طريقة تقسيم ثروات الكنيسة، فبينما كانت آن بولين تميل إلى توزيع المال على المؤسسات الخيرية والتعليمية، كان كرومويل يفضل تكديس الأموال في خزانة الدولة، كي يتسنى له الحصول على جزء منها.
وبما أن آن كانت تشكل تهديداً مباشراً لوزير الملك، سعى كرومويل إلى تشويه صورتها بأعين الملك بعد تلفيق تهم الزنا لها مع أحد النبلاء المقربين منها، وموسيقي وشاعر، ومع سائس الملك الخاص، بالإضافة إلى وجود علاقة محرمة بينها وبين أخيها جورج بولين.
إلا أن بعض المؤرخين يجدون أنه لا علاقة لوزير الملك بتلك الاتهامات التي كانت مجرد دراما زوجية ملكية، من تأليف هنري الثامن، دفعت آن بولين حياتَها في النهاية ثمناً لها.
تخفيف الحكم من حرق على قيد الحياة إلى قطع الرأس
وفي 2 مايو/أيار 1536، اعتقلت الملكة، ثم اقتيدت إلى برج لندن، واحتجزت هناك إلى أن تم قطع رأسها أمام حشد من الناس.
وقد خفَّف الملك الحكم على زوجته السابقة، إذ إن عقاب التهم الموجهة إليها كان الحرق حتى الموت، إلا أنَّ هنري الثامن اكتفى بقطع رأس آن بولين.
وقد ذكر أنتوني كينغستون، حارس البرج، أنَّ آن كانت تبدو سعيدة للغاية، وعلى استعداد للموت.
وبعد مقتل الملكة، حكم على خمسة رجال بالإعدام، بمن فيهم جورج بولين، بتهمة الزنا والخيانة العظمى والتخطيط لقتل الملك مع آن بولين، بالرغم من عدم وجود أدلة مقنعة.
فيما بعد نسجت العديد من الأساطير حول بولين، فقد قيل إنها كانت تعمل بالسحر، وإنها كانت دميمة الوجه، ولديها 6 أصابع في يدها اليمنى، لكن استخدامها للسحر كان سبباً في وقوع الملك في غرامها.
كما خلدت ذكراها لاحقاً في العديد من الأعمال الفنية والمسرحيات والأفلام، ولعل أبرز عملين تناولا حياتها هما فيلم The Other Boleyn girl، بطولة نتالي بورتمن، وفيلم The Tudors من بطولة نتالي دورمر.