في مطلع القرن التاسع عشر حكم إقليم دارفور واحد من أشهر السلاطين الذين عرفتهم المنطقة، لامتلاكه وعياً سياسياً ميّزه عن بقية القادة المحليين في السودان وسائر إفريقيا.. إنه السلطان علي دينار.
يذكر السودانيون السلطان دينار بفخر واعتزاز، فقط حرص على كسوة الكعبة ومساعدة الحجاج وتأمين طرقاتهم وحفر الآبار لسقايتهم، كما قاوم الإنجليز وأيد الخلافة العثمانية، مما جعل الأتراك يذكرون فضله حتى يومنا هذا، فما هي قصته؟
علي دينار سلطاناً على دارفور
ينتمي السلطان علي دينار إلى قوم الـ "فور"، الذين كانوا وما زالوا يسكنون جنوب غرب السودان، وقيل إن مدينة دارفور سميت تيمناً بهم، وتعني "دار الفور".
واسمه الأصلي محمد علي أما دينار فتعني باللهجة الدارفورية (دي نار) أي أن هذا الشخص رجل نار وصعب وقوي وشجاع.
عندما كان دينار شاباً كان المهديون مسيطرين على إقليم دارفور حيث استقروا بمدينة "الفاشر" التي كانت عاصمة الإقليم آنذاك، بينما استقر قوم الفور في منطقة جنوب غرب جبل مُرّة، وكان "أبو الخيرات" عم علي دينار سلطاناً على قومه.
بعد وفاة "أبو الخيرات" بظروف غامضة خلفه علي دينار الذي استدعاه المهديون إلى الفاشر في العام 1892، لتقديم البيعة لخليفتهم آنذاك "عبدالله التعايشي"، وهذا ما كان.
وبعد انهيار المهدية، سيطر على منطقة "الفاشر"، شخص يدعى "أبو كودة"، إلا أن علي دينار استطاع فرض سيطرته على المنطقة معلناً نفسه سلطاناً بعد تنحي "أبو كودة" عن العرش دون قتال.
انهيار المهدية
عقب سقوط الدولة المهدية، توجهت أطماع المتنافسين على الحكم نحو دارفور وكان من بينهم "إبراهيم علي"، الذي حاول استمالة الإنجليز وإقناعهم بدعمه لمواجهة علي دينار والسيطرة على المنطقة.
إلا أن الإنجليز وجدوا أنه من الحكمة عدم السماح بحدوث صراع في السودان، نظراً لأن صراعاً كهذا سيحمل الخزينة تكاليف كبيرة، بسبب بعد دارفور وندرة الطرق المعبدة الواصلة إليها.
حياد الإنجليز سمح لعلي دينار بأن يوطد حكمه في دارفور بعد انتصاره على "إبراهيم علي" في معركة "أم شنقة"، وبعد هذا الانتصار سعى دينار إلى استمالة الإنجليز عبر التأكيد لهم أنه تابع لحكومة السودان، مما جعل أولئك يعتبرونه "صديقاً" في الفترة الحالية.
أمر واقع مفروض على الإنجليز
لم تبق علاقات دينار طيبة مع الإنجليز إلى الأبد، فقد كان السلطان يبدي استقلالية كبيرة في حكم إقليم دارفور، على الرغم من أن الإقليم تابع لحكومة السودان الخاضعة لسيطرة الإنجليز.
فرغم أن علي دينار قد حرص على التأكيد أن إقليم دارفور تابع بالفعل لحكومة السودان، وبقي يدفع جزية لحاكم السودان حتى عام 1915، إلا أن دينار كان يتصرف كما لو أن إقليم دارفور جزء مستقل بذاته، حتى إنه لم يسمح لأي موظف حكومي بالدخول إلى الإقليم كما كان يتهرب دائماً من مقابلة مبعوثي الإنجليز إلى دارفور.
ولم يجد الإنجليز مفراً من التعامل مع علي دينار على أنه أمر واقع فرض عليهم، فقد استطاع الرجل فرض هيمنته على إقليم دارفور، وسيكلف الإنجليز ثمناً باهظاً إذا ما أرادوا تغييره.
كسوة الكعبة وحماية الحجاج
في فترة حكمه عمل علي دينار على إنعاش إقليم دارفور من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية.
وقد كان السلطان متديناً، واهتم بتأسيس دولة قائمة على تعاليم الشريعة الإسلامية.
فعكف على تأسيس مراكز تحفيظ القرآن والمحاكم الشرعية، كما نظم إدارة دولته، مرتكزاً على النهج الإسلامي.
ولعل أبرز أعمال السلطان التي حملت السودانيين على ذكره بفخر حتى هذا اليوم، دأبه على مساعدة المحتاجين في الأراضي المقدسة (مكة والمدينة)، إذ كان يرسل إليهم خراج المحاصيل الزراعية.
كما حرص السلطان على كسوة الكعبة المشرفة في موسم الحج، بعد أن عطل الإنجليز القافلة السنوية التي كانت ترسل من مصر حاملة كسوة الكعبة كل عام.
وكانت جيوش السلطان دينار تعمل على تأمين قوافل الحجيج القادمة من دول غربي إفريقيا نحو مكة، مارة بمدينة الفاشر عاصمة السلطنة.
أيضاً عمل السلطان علي دينار على حفر آبار في الأراضي المقدسة، لترتوي منها قوافل الحجيج، ويؤكد مؤرخون سودانيون أن الآبار الشهيرة التي يطلق عليها (أبيار علي) في السعودية قد سميت تيمناً بالسلطان علي دينار.
موقفه من الحرب العالمية الأولى
بعد أن كان تعامل علي دينار مع الإنجليز يتسم بشيء من الدبلوماسية، بات الصراع بين الطرفين علنياً ومكشوفاً، بعد وقوفه إلى جانب الأتراك في الحرب العالمية الأولى.
فمنذ بداية الحرب أعلن دينار انحيازه للخلافة، وفضَّ ما بينه وبين حكومة السودان التابعة للإنجليز من معاهدات واتفاقيات في العام 1915، كما توقف عن دفع الجزية للحكومة.
ولعل الدافع الديني كان السبب الأبرز الذي جعل علي دينار ينحاز للأتراك ضد الإنجليز والفرنسيين، الذين وصفهم بـ "الكفار".
موقعة برنجة
بعد انحياز علي دينار الواضح للأتراك ضد الإنجليز وجد أولئك أنه لا مفر من المواجهة العسكرية هذه المرة.
بدأ الإنجليز حربهم ضد السلطان علي دينار بتأليب القبائل ضده لإضعاف سلطته، فقاموا بتسليح تلك القبائل بعد تحفيزهم ضد السلطان.
وبعد إرهاق جيش علي دينار، بدأ الإنجليز بالتحرك نحو الخطوة التالية، فكانت معركة برنجة بين جيش السلطنة وقوات الاستعمار الإنجليزي على تخوم الفاشر.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 1916، تمكن الإنجليز من تبديد جيش دارفور البالغ 3600 مقاتل، وقتل في المعركة حوالي ألف رجل من جيش دارفور.
فقد استخدم الإنجليز الطائرات لأول مرة في إفريقيا، لتتم لهم السيطرة على الفاشر بعد هروب السلطان وأهله إلى جبل مُرّة، حيث تم اغتياله هناك أثناء صلاته الصبح على يد أحد أتباعه.
وبعد سقوط السلطنة، اتخذ المستعمر قصر السلطان علي دينار مقراً لهم، وتم الحفاظ عليه بعد استقلال البلاد كإرث وطني، ليتحول في العام 1977 إلى متحف يؤرخ للسلطنة وحضارات السودان النوبية القديمة.
وقد عزم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على ترميم القصر بعدما زار السودان في العام 2006، تكريماً لذكرى علي دينار، الذي وقف مع الأتراك في حربهم ضد الإنجليز.