ذُكرت في رواية غلغامش كـ "أرض الخلود"، ويعتقد بعض المؤرخين أنها "جنة عدن" التي بدأ فيها الخلق. إنها حضارة دلمون في البحرين، التي ما زالت تثير الجدل وتكشف عن أسرارها.
هي واحدة من أقدم الحضارات التي عرفتها البشرية، والتي امتدت على طول الساحل الشرقي لشبه الجزيرة العربية من الكويت عند جزيرة فيلكا حتى حدود حضارة مجان في سلطنة عمان وحضارة أم النار في إمارة أبوظبي بدولة الإمارات.
تتميز هذه الحضارة بالمكانة التي احتلتها في العالم من حيث القداسة فكانت توصف بـ "جنة عدن" أو الفردوس، وكُتبت على جدران بابل وفقاً للأسطورة السومرية القديمة بأنها أرض نظيفة طاهرة لا مرض فيها ولا عدوان.
كما ذكرت في رواية غلغامش كـ "أرض الخلود"، حيث حضر إليها بحثاً عن العشب السري تحت البحر قبالة شواطئها.
وفي عام 1922، اقترح الباحث والمؤرخ النمساوي إدوارد جلاسر أن "جنة عدن" المذكورة في الرواية الإنجيلية والتوراتية تقع في شرق الجزيرة العربية داخل حضارة دلمون.
كما سجل الباحث الأمريكي جوريس زارينز والمتخصص بآثار الشرق الأوسط أيضاً، اعتقاده أن "جنة عدن" كانت تقع في دلمون على رأس الخليج العربي.
إذ توصل من خلال بحثه في هذا المجال باستخدام معلومات من عديد من المصادر المختلفة، وضمن ذلك صور Landsat من الفضاء، أثبتت وجود 4 أنهار كانت تصب في المنطقة قبل آلاف السنين، بما يتوافق مع الرواية الإنجيلية، وفق أبحاثه.
حضارة دلمون
تميزت حضارة دلمون القديمة بأنها نقطة الوصل ما بين الطُرق التجارية القديمة الشرقية والغربية.
كما تحتوي الآثار التاريخية التي تحمل معها تاريخ البحرين قبل 5 آلاف عام تقريباً.
ومن آثار هذه الحضارة قلعة البحرين، والقبور التلالية، والجداريات الفنية ذات الجمال الخلّاب، وما زالت مملكة البحرين تحتفظ بعديد من آثار حضارة دلمون في متحف البحرين.
وماذا عن تاريخ هذه الحضارة؟
نشأت حضارة دلمون في الفترة ما بين 2800 و323 قبل الميلاد، وتتألف من جزر البحرين ومن المنطقة الشرقية من شبه الجزيرة العربية.
وكان أهلها من الساميين الذين عاشوا في المنطقة الوسطى من شبه الجزيرة العربية.
ظهر اسم دلمون في عديد من الحضارات القديمة كالحضارة الآشورية، والسومرية، والبابلية، والأكادية.
وقد قامت هذه الحضارة نتيجة لموقعها الجغرافي الممتاز، ولوجود مصادر مختلفة للماء، بالإضافة لوجود الإمكانات الطبيعية الأخرى.
أبرز مظاهر حضارة دلمون
اشتهرت حضارة دلمون بكثير من المظاهر الحضارية، ومنها:
- التجارة والزراعة: هناك عدد من الدلالات التي تشير إلى وجود نشاطات تجارية ذات نطاق واسع في هذه الحضارة، بالإضافة إلى توافر الماء العذب الذي ساعد على الزراعة.
كان أهل دلمون يقومون بعمليات المقايضة في تلك الفترة، حيث كانوا يلعبون دور الوسيط ما بين بلاد الرافدين ووادي النيل.
وازدهرت تجارة دلمون بشكل أكبر بعد سقوط حضارة السِّند على أيدي الغزاة الآريين، إلا أن انقطاع الموارد التجارية تسبب في ضعف تجارة دلمون حتى استعاد الآريون العلاقات التجارية مع منطقة الخليج.
كما تميزت حضارة دلمون باتصالها مع المراكز الحضارية، مثل حضارة وادي الرافدين، وحضارة السِّند وبلاد فارس.
وظهر في كتابات بلاد ما بين النهرين أن حضارة دلمون كانت من كبرى الحضارات المحتكرة لتجارة النحاس في تلك الفترة. - صيد السمك: كان أهل دلمون يستخرجون اللؤلؤ ويصطادون الأسماك من المحيط، كما كانت مياه البحر هي حلقة الوصل ما بين دلمون والحضارات الأخرى.
وما المدن الدلمونية؟
أسفرت أعمال التنقيب في موقع قلعة البحرين على أيدي البعثة الدنماركية عن اكتشاف أربع مدن دلمونية قديمة، حيث تعود كل مدينة منها إلى فترة مختلفة من تلك الحضارة، وهي:
- المدينة الأولى:
تحتوي هذه المدينة على أقدم الطبقات الأثرية والتي تمثلت في وجود عدد من البيوت المبنية على محاذاة ساحل البحر.
وقد تعرضت هذه المدينة للحرق والتدمير، حيث وجد الباحثون معالمها مغطاة بأتربة تحتوي على حبيبات من الفحم.
ورُبط بين التخريب الذي وقع في المدينة الأولى والنصوص المسمارية التي نُسبت إلى سرجون الأكدي (حكم منذ عام 2334 حتى 2279 ق.م).
إذ قد وجد الباحثون كثيراً من البقايا الأثرية الأخرى، والتي تتمثل في الآنية الحجرية المصنوعة من حجر الكلوريت، والآنية الفخارية التي كُتبت عليها بعض النصوص المسمارية.
- المدينة الثانية:
كان لهذه المدينة دور كبير في الحركة التجارية، وهو ما ترك أثراً كبيراً في عمارتها وبنيتها التحتية، حيث عثر الباحثون على عدد كبير من الآثار التي تتمثل في الأختام والأوزان الحجرية.
وكانت تُستخدم الأوزان لتسهيل عملية التبادل التجاري، وضبط عملية المحاسبة التي تتم بعد تقييم السلعة بالموازين وتحويلها إلى موازين للطرف الآخر، إلا أن أهم ما تم اكتشافه خلال التنقيب هو ورش تصنيع الأختام الحجرية.
وتدل جميع تلك الأمور على المستوى الحضاري العالي الذي وصلت إليه حضارة دلمون خلال فترة المدينة الثانية. - المدينة الثالثة:
كانت هذه المدينة يحكمها وجهاء دلمون، وقد تميزت المدينة الثالثة بضخامة حجمها.
وقد أثبت الباحثون أن دلمون كانت تصدّر أجود أنواع التمور، فقد عُثر على مخزن للتمور فيها، كما عُثر على عديد من الجرار الفخارية ذات الطراز الذي استخدمه الكاشيون الذين فرضوا سيطرتهم على الجزء الجنوبي الشرقي من بلاد الرافدين، قادمين من منطقة جبال زاجروس.
ظهرت كثير من الدلائل على دخول الكاشيين منطقة الخليج العربي، ومنها معبد الآلهة عشتار الذي كان من أهم الدلائل على وجودهم في دلمون.
أثبتت التنقيبات الفرنسية التي أُجريت بهدف إكمال مشروع التنقيبات الدنماركية، وجود علاقة وثيقة بين الكاشيين ودلمون، حيث كشفت عن وجود قصرين يُعتقد أنهما يعودان إلى الحُكم الكاشي.
إلا أن الأبحاث الفرنسية رأت أن الجزء الشمالي من القصر الأول لا يختلف بشكل كبير عن المنطقة السكنية الجنوبية، ولهذا اعتقدوا أنه مسكن عادي.
لكن وجدوا بعض الآثار كلوح مسماري صغير الحجم، بالإضافة إلى أجزاء من قطع طينية مختومة.
أما القصر الثاني فيُعتقد أنه معبد، لأنهم عثروا على خِتم يحتوي على كتابات مسمارية تذكر اسم إله الثعبان السومري. - المدينة الرابعة:
بُنيت هذه المدينة على أنقاض المدينة الثالثة، وهي امتداد لها، وقد بُنيت على شكل مبنى ضخم يشبه القصر، ويُعتقد أنه قصر الملك أوبيري ملك دلمون.
وتميزت مباني هذه المدينة بأن الجزء الأول منها يشبه الوحدة الإدارية، أما الجزء الثاني فقد كانت له وظيفته الدينية، كما أن التصميم السائد لهذه المدينة يشبه بشكل كبير تصميم مباني بلاد الرافدين.
اختفاء حضارة دلمون
مرّت دلمون باعديد من الأحداث التي تسببت في تدخل الحضارات الأخرى بها:
بدأت أنظار الأكاديين، والكلدانيين، والآشوريين تلتفت نحوها بعد ازدهارها، حيث تقدمت جيوش الملك سرجون الأكادي نحو دلمون، من أجل ضمّها إلى سلطة الأكاديين.
خضعت دلمون لسلطة الكلدانيين، وأصبحت تدفع الإتاوات وترسل الهدايا لهم.
وأصبح الملك الآشوري توكولتي نينورتا ملكاً لدلمون، والذي افتخر بأنه ملك عليها وعلى ملوخا الذي سمى نفسه: "ملك سبار وبابل.. ملك دلمون وبلاد ملوخا.. ملك البحار العليا والسفلى.. ملك جميع الجبال والصحارى".