قد يكون للتوتر السياسي أكثر من بُعد أو جانب؛ لكن هذه المرة تتصدر المناهج الدراسية الحديثة واجهة المشهد، لتشمل التغييرات الأخيرة التي أجرتها السعودية في مناهج مادة التاريخ، والتي يبدو أنها تسير على نهج إدارة ولي العهد محمد بن سلمان في إدارة علاقة متوترة مع تركيا.
تعديلات تعليمية أم حسابات سياسية؟
بعض التعديلات في المناهج الدراسية السعودية تضمنت مفاهيم جديدة، بينها نزع صفة "الخلافة" عن الدولة العثمانية، وإطلاق اسم "الدولة العثمانية الغازية" بدلاً منها.
وكانت المناهج السعودية قبل التعديلات تتعامل مع الدولة العثمانية كخلافةٍ إسلاميةٍ، مثلها مثل الخلافتين الأموية والعباسية؛ فكانت تشيد بحكّامها الأوائل كالسلطان محمد الفاتح والسلطان سليمان القانوني. إلا أن كُتب التاريخ الجديدة صارت تتهم الدولة العثمانية بـ "الوحشية" والتنكيل بشعب الجزيرة العربية وسرقة ثرواتها.
وتشرح بعض الفقرات والدروس كيف تعرضت الدولة السعودية بمراحلها الثلاث، لهجمات الدولة العثمانية "الغازية" – على حد وصفها -، وما سببته من مذابح وخسائر، مُشيدة بمقاومة السكان المحليين.
المناهج السعودية الجديدة سلّطت الضوء على معركة تربة التي قالت إنها شهدت تكبّد العثمانيين خسائر كبيرة، ومقتل مئات من الجنود وفرار البقية تاركين خلفهم أسلحتهم ومدافعهم، بعد أن انهزموا أمام "قوات الأبطال السعوديين"؛ وهو ما يخالف عديداً من المصادر التاريخية عن نشأة المملكة السعودية.
ما هي معركة تربة؟ ومَن أطرافها؟
بينما استمالت بريطانيا الملك عبد العزيز في خضم صراعها مع الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، كانت تُجري مفاوضات مشابهة مع الشريف حسين في ذات الوقت، فدفعته لندن للتمرد على حكم الخلافة العثمانية وتشجيع القبائل على الالتحاق بـ "الثورة العربية الكبرى" التي يقودها؛ في مقابل منحِه دعماً لحُكمه الإمارات العربية في الحجاز.
ومع توسُّع نفوذ عبد العزيز آل سعود – مؤسِّس الدولة السعودية الثالثة – في الجزيرة العربية، وخوف الشريف حسين من وصوله إلى الحجاز، قرَّر حاكم مكة التحالف مع البريطانيين ضد الدولة العثمانية؛ أملاً في الخروج من الحرب العالمية الأولى بدولةٍ واسعة، خاصةً أن البريطانيين أقنعوه بأنه الرجل الأحق بحكم العرب، بسبب نَسَبِه الشريف.
ولم يكتفِ البريطانيون بدعم الشريف حسين، بل أعطوا الضوء الأخضر للملك عبدالعزيز آل سعود في السيطرة على شبه الجزيرة العربية، التي كانت عائلات متفرقة تتقاسم حكم مناطقها.
وفي أعقاب الانسحاب العثماني من الإمارات والمدن العربية بحلول العام 1918 – أي قبل تاريخ معركة تربة بعام – بسبب مواجهتها الطاحنة مع قوات الحلفاء بزعامة بريطانيا والمواجهات مع المتمردين من القبائل العربية؛ كان الصراع الهاشمي – السعودي في أوْجِه بين الشريف حسين والملك عبد العزيز.
ووفقاً لمعجم المعارك التاريخية، فإن معركة تربة حدثت في تربة البقوم على وادي تربة، في 15 مايو/أيار 1919، بين أنصار الملك عبدالعزيز وأنصاره من الإخوان "جماعة إخوان من أطاع الله" بقيادة سلطان بن بجاد وحاكم الخرمة الشريف خالد بن منصور بن لؤي من جهة، وقوات الشريف الحسين بن علي حاكم مكة والمدينة المنورة بقيادة ابنه عبدالله الأول بن الحسين والقائد عبدالله العسيس من جهة أخرى.
ووفقاً لموسوعة تاريخ العرب المُعاصر والحديث، فإن الحسين أكمل استعداداته العسكرية وتأهَّب للسير باتجاه الشرق، فوصلت الأنباء إلى ابن سعود الذي كتب إلى السلطات البريطانية في بغداد يُخبرها بنوايا الحسين هذه، إلا أن الردود البريطانية حاولت تهدئة مخاوفه بالإشارة إلى أن هذه الأنباء لا أساس لها من الصحة، وهدفها إشاعة البغضاء بين الزعيمين، ورغم تكرار نداءات ابن سعود إلى السلطات البريطانية عن احتمال محاولة الحسين استعادة خرمة فإنها لم تولِ الأمر كثيراً من الاهتمام.
وفي هذه الأثناء أرسل الحسين ابنه عبد الله على رأس قوة من الجيش النظامي وبرفقتهم جماعة من أهل الحجاز ومتطوعون سوريون وفلسطينيون وعراقيون، فزحف نحو منطقة تربة ودخلها دون قتال في 24 مايو/أيار 1919، وكان يُخطط للتقدم نحو خرمة لاستعادتها نهائياً من قبضة النجديين، فسارعت بريطانيا إلى إرسال حسين أفندي روحي سكرتير المُعتمد البريطاني في جدة، لمُقابلة عبد الله في معسكره، إذ اختلى به وأبلغه أن بريطانيا كانت قد نصحت الحسين من قبلُ بعدم مُتابعة الحرب مع ابن سعود، واقترح عليه اتباع الحكمة لحل المُشكلات مع النجديين.
معركة تربة وهزيمة الهاشميين
واستعد ابن سعود لمُلاقاة جيش عبد الله بن الحسين في قوة تبلغ نحو 25 ألف رجل من قبائل عتبة وحرب ومطير بقيادة خالد بن لؤي، فأجهزت في منتصف ليلة 25 مايو/أيار على قوات عبد الله التي كانت تضم نحو 500 جندي نظامي مع 800 حجازي فقط، وحققت بعض الانتصارات عليهم، حيث عاد الهاشميون إلى الطائف ثانيةً وفُتح الطريق أمام ابن سعود بالسير في اتجاه الطائف دون مُقاومة.
وانتهت المعركة بمقتل ما يقرب من ألف و350 جندياً من الجيش الهاشمي، بانتصار أنصار وقوات الملك عبد العزيز؛ بعد أن وَضَح التخلّي البريطاني عن الشريف حسين وقواته وعدم الوفاء بالوعد الذي أبرمته معه الحكومة البريطانية سراً من أجل ضمان التلاعب بالطرفين على حساب أهل المنطقة.
وعلى عكس ما ذكرته كُتب التاريخ السعودية الجديدة، فإن العثمانيين لم يكونوا بالأساس طرفاً من أطراف المعركة، إذ انسحبت قوّات السلطنة من كافة أراضي شبه الجزيرة العربية قبل نهاية العام 1918، باستثناء المدينة المنورة التي أصرّ فخر الدين باشا على البقاء فيها حتى انهيار الدولة تماماً.
ما ترتب على الهزيمة الهاشمية
تسببت هذه الهزيمة في ضعف موقف الشريف حسين في الحجاز؛ وبدأ التخطيط والتمهيد السعودي من قِبل الملك عبد العزيز للسيطرة على مكّة بدعم بريطانيا، مُستغلاً التخلي التدريجي لهم عن الشريف حسين وخططه السابقة؛ وبداية لسيادة الملك عبد العزيز على الأراضي الحجازية وإعلان المملكة السعودية؛ التي لم يكن للعثمانيين أي ظهور فيها بعد انتهاء الخلافة في شبه الجزيرة.