أخذ التوتر السياسي بين السعودية وتركيا منحىً جديداً، بعد إجراء وزارة التعليم تعديلات على مناهج التاريخ في السعودية، فأُلغي وصف الدولة العثمانية بـ "الخلافة"، وصارت تُدعى "الدولة العثمانية الغازية" .
وقبل التغيير الأخير كانت المناهج السعودية تتعامل مع الدولة العثمانية كخلافةٍ إسلاميةٍ، مثلها مثل الخلافتين الأموية والعباسية؛ فكانت تشيد بحكَّامها الأوائل كالسلطان محمد الفاتح والسلطان سليمان القانوني، إلَّا أنَّ كُتب التاريخ الجديدة صارت تتهم الدولة العثمانية بـ "الوحشية" والتنكيل بشعب الجزيرة العربية وسرقة ثرواته.
تغيير المناهج السعودية جاء امتداداً لسياسة التغيير التي يقودها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، منذ توليه المنصب في يونيو/حزيران 2017، والتي شملت عدداً من الإصلاحات الاجتماعية، رافقتها إجراءات متشددة مع التيار الإسلامي وحلفائه في المنطقة، وعلى رأسهم تركيا.
حصار المدينة المنوّرة في المناهج السعودية
أهم التغييرات التي طرأت على المناهج السعودية الجديدة يتعلَّق بطريقة التعاطي مع حصار المدينة المنورة (غرب السعودية)، بين يونيو/حزيران 1916 ويناير/كانون الأول 1919، حيث نصَّت الكتب الجديدة على أنَّ الدولة العثمانية مارست "التهجير القسري (سفر برلك) لأهالي المدينة المنورة، من أجل تجنيد أبنائهم لمساندة الدولة العثمانية وحليفتها ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، حيث نُقل بعض أهالي المدينة إلى الشام نقلاً تعسفياً، ونُهبت أغذية المدينة المنورة وخيراتها من أجل تموين عساكر الدولة العثمانية" .
فما هي حقيقة ما جرى في المدينة المنورة في تلك الفترة، وهل كان واليها فخر الدين باشا سارقاً بالفعل، أم مدافعاً عن المدينة المقدسة؟
بريطانيا تُغري الشريف حسين بمملكةٍ عربية
قبل حصار المدينة المنورة بنحو عامين، اندلعت الحرب العالمية الأولى بين طرفين رئيسيين؛ دول المركز التي ضمّت ألمانيا والنمسا والمجر والدولة العثمانية من جهة، ودول المحور التي ضمّت بريطانيا وفرنسا وروسيا من جهةٍ أخرى.
لم تكن حالُ الدولة العثمانية على ما يرام في تلك الفترة، فكانت تمرّ بأضعف أيامها حتى وُصفت بـ "الرجل المريض" . لذلك سخَّرت بريطانيا قدراتها الاستخباراتية والعسكرية للإطاحة بها، وتقسيم أراضيها ومناطق نفوذها بين حلفائها.
في الجزيرة العربية والشام، أغرت بريطانيا شريف مكة حسين بن علي بالتمرّد على الدولة العثمانية والثورة على إسطنبول، واعدةً إياه بإنشاء دولةٍ عربية تخضع لحكمه في الحجاز والشام.
ومع توسُّع نفوذ عبدالعزيز آل سعود -مؤسس الدولة السعودية- في الجزيرة العربية، وخوف الشريف حسين من وصوله إلى الحجاز، قرَّر حاكم مكة التحالف مع البريطانيين ضد الدولة العثمانية أملاً في الخروج من الحرب العالمية الأولى بدولةٍ واسعة، خاصةً أن البريطانيين أقنعوه بأنه الرجل الأحق بحكم العرب بسبب نَسَبِه الشريف.
ولم يكتفِ العثمانيون بدعم الشريف حسين، بل أعطوا الضوء الأخضر للملك عبدالعزيز آل سعود في السيطرة على شبه الجزيرة العربية، التي كانت عائلات متفرقة تتقاسم حكم مناطقها.
العثمانيون يدفعون بفخر الدين باشا في الحجاز
وخلال تخطيط البريطانيين مع الأطراف العربية في شبه الجزيرة والشام للتخلص من العثمانيين؛ كان العثمانيون يخوضون حرباً شرسةً ضد الحلفاء، وحرباً داخليةً أخرى للدفاع عن أراضيهم.
وفي يونيو/حزيران 1916، أعلن الشريف حسين "الثورة العربية الكبرى" على العثمانيين، فقرر العثمانيون الدفع بالقائد العسكري فخري باشا حاكماً على المدينة المنورة، للدفاع عنها ضدّ "التمرّد"، كونها مركزاً هاماً في قلب الحجاز.
واجه القائد الذي لقّبه البريطانيون بـ "أسد الصحراء" مع رجاله حصار بريطانياً عربياً، ما يقرب من 3 سنوات؛ عانت المدينة خلالها كثيراً، لاسيما بعدما استعانت قوات الشريف حسين بالعميل البريطاني إدوارد لورانس، المعروف بـ "لورانس العرب"، لتفجير السكة الحديدية في الحجاز ونسف أعمدة التليغراف، ما عقّد عملية وصول الإمدادات.
وبحسب المؤرخ التركي فريدون قاندمر، في كتابه "الدفاع عن المدينة: آخر العثمانيين في ظلال نبينا صلى الله عليه وسلم"، فإن فخر الدين باشا استهلَّ حربه ضد العمليات المناوئة للدولة بهزيمة قوّات الشريف الحسين، القابعة في المواقع المعروفة، فتم تعيينه قائداً للقوة الحربية الحجازية، التي تعزَّزت بوحدات عسكرية جديدة.
إلا أن القوات القبلية استغلَّت سوء تدبير غالب باشا والي مكة، وشنَّت هجوماً ناجحاً أسفر عن سيطرتهم على جدة، في 16 يونيو/حزيران 1916، ثم على مكة في 9 يوليو/تموز، ثم على الطائف في 22 سبتمبر/أيلول من نفس السنة، فآل بذلك حكم معظم المراكز الكبيرة التي دافع عنها فخر الدين باشا إلى الشريف حسين.
وطلب فخر الدين باشا من إسطنبول إمدادات عسكرية، لكن الحكومة أبلغته بأنها لا تستطيع تلبية رغبته بالنظر إلى كثرة الجبهات المفتوحة التي تحارب عليها.
وخوفاً من سقوط المدينة المنورة، اقترح فخر الدين باشا نقل 30 غرضاً من الأمانات النبوية الشريفة إلى إسطنبول، خوفاً من تعرُّض المدينة المنورة لأعمال سلب ونهب، فوافقت الحكومة على طلبه، شريطة تحمُّله المسؤولية كاملة للأمر، فأرسلها فعلاً إسطنبول تحت حماية نحو ألفي جندي.
قاوم رغم خسارة العثمانيين للأراضي العربية
مع اشتداد معارك الحرب العالمية الأولى، خسرت الدولة العثمانية الكثير من جنودها وقوّتها العسكرية؛ فاستغلّ الشريف حسين ذلك في حشد الأنصار، حتى وصل تعداد جيشه إلى 70 ألف مقاتل، ونجح فعلاً في السيطرة على مدنٍ عربيةٍ رئيسية مثل بيروت ودمشق وحمص وحماة وحلب وصور وصيدا بحلول العام 1917، مستغلاً الدعم العسكري البريطاني وانسحاب القوات العثمانية إلى شمال الشام.
ورغم انقطاع الدعم وخسارة الدولة العثمانية لكافة الأراضي العربية بحلول العام 1918، فإن فخر الدين باشا أصرَّ على البقاء في المدينة المنورة ومحاولة الدفاع عنها، للحيلولة دون وقوعها في يدّ قوات الشريف حسين.
يحكي الباحث العراقي أورخان محمد علي أنَّ فخري باشا تشبَّث بالبقاء في المدينة المنورة للدفاع عنها وعدم السماح للقبائل العربية المتحالفة مع بريطانيا بدخولها، فتواصل مع رؤسائه، وطلب منهم دعمه قائلاً "لماذا نخلي المدينة؟ من أجل أنّهم فجَّروا خطَّ الحجاز؟ ألا تستطيعون إمدادي بفوجٍ واحدٍ فقط مع بطارية مدفعية؟ أمهلوني مدةً، فقد أستطيع التفاهم مع القبائل العربية. لن أنزل العلم الأحمر بيديّ من على حصن المدينة، وإن كنتم مخليها حقاً فأرسلوا قائداً آخر مكاني" .
لكن القيادة العسكرية العثمانية طلبت منه الاستسلام بالنظر إلى خسارتها السيطرة على المنطقة الواصلة بين حلب والمدينة المنورة، لكنه رفض وقرَّر الاستمرار في المقاومة، وظل مع قواته تحت حصار قوات الشريف حسين، حتى اشتدت وطأة الجوع والمرض على الجيش وسكان المدينة وقلت الذخيرة، ونصحه ضباطه بالتفاوض فقبل.
وعند الاتفاق، رفض فخر الدين باشا الخروج -كما يحكي أورخان- "ما دفع ضباطه لحمله قسراً وإدخاله الخيمة التي كانت معدة له، وسط جو من الحزن والبكاء لمفارقة المسجد النبوي وضريح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وللهزيمة التي مُنيت بها الإمبراطورية العثمانية" .
وفي 13 يناير/كانون الثاني 1919، دخلت قوات عبدالله بن حسين المدينة المنورة بعد حصارٍ طويلٍ استمرَّ حتى بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، واعتُقِل فخري باشا، وصار أسير حرب في مالطا لمدة 3 سنوات، قبل أن تفلح جهود حكومة أنقرة الجديدة في الإفراج عنه، حيث عيّن سفيراً للدولة التركية الحديثة في كابل.
انهيار مملكة الحجاز وسيطرة السعوديين عليها
وبعد 3 سنوات من إعلان مملكة الحجاز، أحكمت قوّات الشريف حسين سيطرتها على المنطقة بدخولها المدينة المنورة في العام 1919، لكنها ما لبِثت أن دخلت الحرب النجدية- الحجازية، التي دفعت الملك حسين للتنازل عن الحكم لابنه علي بن حسين في العام 1924.
ورغم تنازل الشريف حسين عن حكم الحجاز لصالح ابنه علي، فإن قوات "السلطان" عبدالعزيز آل سعود -آنذاك- أصرَّت على دخول الحجاز تحت نفوذها، فوُقِّع اتفاق يقضي بتسليم جدة والحجاز إلى مملكة نجد وملحقاتها، في 17 ديسمبر/كانون الأول 1925، مقابل ضمان خروج آمنٍ للأسرة الهاشمية.
أما فخري باشا، فتُوفي في إسطنبول يوم 22 نوفمبر/تشرين الثاني 1948 عن 79 عاماً، ودفن في قلعة "روملي حصار" بناءً على طلبه.