الروس يصلّون من أجل القيصر نيكولاس الثاني
في الساعات الأولى من فجر يوم 17 يوليو/تموز عام 1918، دفع الثوار الأسرة الإمبراطورية الروسية – القيصر نيكولاس الثاني وزوجته الإمبراطورة وأطفالهما الخمسة وموظفيهم -، إلى قبو المنزل الذي كانوا يعيشون فيه في المنفى، في إيكاتيرينبرغ، وقتلوهم رمياً بالرصاص وطعناً بحراب البنادق.
وعند إنشاء الاتحاد السوفييتي في العام 1922، حُظر أي ذكر لآخر أسرة امبراطورية لروسيا، سواءً بين الناس أو حتى في وسائل الإعلام.
ومع ذلك، لم يتخل الكثير من الروس العاديين – سيما من الأجيال الأكبر سناً -، عن عقيدتهم الروسية الأرثوذكسية، أو يتوقفوا عن الصلاة من أجل قيصرهم المغبون، وواصلوا طقوس تعميد أطفالهم بشكلٍ سرّي.
في الغرب.. لا أحد يهتم سوى بأناستاسيا
أما خارج الاتحاد السوفييتي، فتلاشى الاهتمام بآخر أسرة امبراطورية روسية مع بداية صعود موسكو السوفييتية، باستثناء موجة الاهتمام العارضة مثل ما حدث بسبب آنا أندرسون التي ادعت كذباً أنها أناستاسيا (الابنة الأصغر للقيصر نيكولاس الثاني) الهاربة من مجزرة إيكاتيرينبرغ.
وبحلول منتصف السبعينيات من القرن المنصرم، كان هناك قلق رسمي متزايد في الاتحاد السوفييتي من التبجيل السري المستمر لآل رومانوف، فقررت الحكومة اتخاذ تدابير جذرية لمحاولة قمعه.
السوفييت يخشون قصر إيباتييف في إيكاتيرينبرغ
احتُجز آل رومانوف في قصر إيباتييف في مدينة إيكاتيرينبرغ تحت حراسة مشددة منذ نهاية إبريل/نيسان 1918، وحتى تصفيتهم في 17 يوليو/تموز.
ومع حرص السوفييت على قطع العلاقة بالإمبراطورية القديمة، روجوا لهذا القصر باعتباره معلماً تذكارياً ثورياً، محتفلين بتدمير الثورة للنظام الإمبراطوري القديم والمكروه. واستخدم قصر إيباتييف بين عامي 1927 و1938 ليكون متحف الأورال للثورة قبل تحويله إلى متحف للإلحاد، وفي العام 1946، استولى عليه الحزب الشيوعي في إيكاتيرينبرغ.
ومع ذلك، فقد فشلت محاولات الشيوعية المنهجية لتدمير آخر معقلٍ لآل رومانوف. فعلى الرغم من المناخ السياسي المعادي للاتحاد السوفييتي، أصبح قصر إيباتييف العكس الدقيق لرمز الثورة: إذ أصبح وجهةً يسافر إليها الحجاج والمؤمنون لتقديم احترامهم لعائلتهم الإمبراطورية المحبوبة.
تحركت الحكومة السوفييتية بسرعة لنزع فتيل هذه المشكلة. فمع اقتراب الذكرى السنوية الستين لوفاة آل رومانوف في العام 1978، قرر المكتب السياسي في الحزب الشيوعي، القضاء على المشكلة، فأصدر رئيس أمن الدولة في الحزب يوري أندروبوف، أمراً للزعيم المحلي للحزب في إيكاتيرينبرغ، بوريس يلتسن لتنظيم عملية الهدم السريع للقصر في سبتمبر/أيلول 1977.
وقد كان هذا التصرف، "عملاً همجياً" بحسب يلتسن نفسه الذي أصبح لاحقاً أول رئيس لجمهورية روسيا الاتحادية في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي.
يقول موقع History Extra إن تدمير قصر إيباتييف لم يُحدث أي فارق؛ فاستمر الناس في اعتباره مكاناً للحج والصلاة والذكرى، وانتصب صليب أرثوذكسي روسي خشبي بسيط فوق الأرض الخراب التي كان المنزل يشغلها في الماضي، لكنَّ السلطات المحلية أزالته بسرعة.
الكنيسة تعلنها رسمياً: قدسية دينية لآل رومانوف
استمر المتدينون الأرثوذكس في تثبيت صليبٍ جديدٍ أمام قصر إيباتييف كلّما أزالت الدولة واحداً حتى انهيار الاتحاد السوفييتي في ديسمبر/كانون الأول 1991. وما إن رحل النظام القمعي القديم، حتى بدأت الكنيسة الروسية الأرثوذكسية بالعودة ببطء وثبات وسرعان ما انبعثت من جديد، ومعها جاء التبجيل لآل رومانوف بوصفهم الرمز الأساسي للإيمان بالنسبة للكثير من الروس.
وبحلول العام 2000، كانت الكنيسة الروسية الأرثوذكسية في روسيا أعلنت آل رومانوف قديسين (وذلك على الرغم من أنَّ الكنيسة الروسية الأرثوذكسية كانت قد فعلت ذلك سراً منذ فترة طويلة في العام 1981)، وكانت هناك خطط لتشييد كاتدرائية ضخمة في موقع القصر في إيكاتيرينبرغ.
ومع ضخ الأموال من عدد كبير من الرعاة، بدأ العمل فيما يعرف الآن بكنيسة إيكاتيرينبرغ المقامة على الدم (الاسم كاملاً: الكنيسة المبنية على الدم تكريماً لجميع القديسين اللامعين في الأرض الروسية).
انتهى بناء الكنيسة في العام 2003، وأصبحت موقعاً رئيسياً للحج ومركزاً للاهتمام العالمي المتزايد بآل رومانوف.
قصر إيباتييف يتحول إلى مزارٍ ديني أرثوذكسي
وارتفعت أهمية الكنيسة المقامة على الدماء بالنسبة للمؤمنين من الروس الأرثوذكس، مع تدفق هائل للحجاج في يوليو/تموز من كل عام لحضور "أيام القيصر" – وهي فترة 3 أيام لإحياء الذكرى والتوقير والصلاة والمواكب الدينية في المدينة وحولها -.
وبنهاية صلاة ليلية طويلة في الكنيسة المقامة على الدماء ليلة 16 من يوليو/تموز، يمشي المصلون جماعياً قرابة 12ميلاً إلى غابة كوبتياكي خارج إيكاتيرينبرغ، وهناك يتجمعون فيما يعرف بالآن باسم دير حاملي العاطفة الإمبراطورية المقدسة، الذي يضم 7 كنائس صغيرة تمثل كل فرد من أفراد آل رومانوف.
وبحسب موقع History Extra، فإن عدد المحتفلين بأيام القيصر يزداد كل عام. إذ كانت أيام الحج الأولى تتألف من بضعة آلاف فحسب، أما عام 2017 فقد قُدرت الحشود بما يصل إلى 60 ألفاً. وفي الجزء الختامي من كأس العالم لكرة القدم عام 2018، كان يُعتقد أنَّ من الممكن تدفق عدد يصل إلى 200 ألف شخص إلى المدينة لإحياء الذكرى السنوية المائة لإعدام آل رومانوف. ومما لا شك فيه أنَّ هذه الذكرى سوف تكون أكبر مظاهرة عامة حتى الآن للأهمية المتزايدة التي لا تقاوم لآل رومانوف في الحياة الثقافية والروحية والعاطفية لروسيا المعاصرة.
آل رومانوف يعودون إلى الحياة رغماً عن الجميع
وثمة آمال أيضاً في أن تعلن الكنيسة الروسية الأرثوذكسية أخيراً نتائج الفحص الذي بدأته مؤخراً لرفات آل رومانوف التي عثر عليها في التسعينيات في قرية جانينا ياما – شمال إيكاتيرينبرغ -.
على صعيدٍ آخر، أتاح مشروع رقمي يسمى #Romanovs100 (#آل رومانوف 100) أرشيفات فوتوغرافية شخصية نادرة لجلب السنوات الأخيرة لآل رومانوف إلى الحياة في العصر الرقمي.
وثمة حديث أيضاً عن مشروع لإعادة بناء صورة طبق الأصل من قصر إيباتييف، إلى جانب كاتدرائية جديدة ضخمة.
إذا لم تكن إيكاتيرينبرغ قبلةً حقيقيةً للحج المسيحي، فإنها يقيناً تعِد بأن تكون "قدساً" جديدة للمؤمنين الروس الأرثوذكس من جميع أنحاء العالم.