كان الوضع في ذروته بمصر وليس العالم العربي والإسلامي فقط في تلك الفترة، فجيوش نابليون بونابرت تخسر بأوروبا، والعثمانيون قد بدأ الضعف يدبُّ في دولتهم وجيوشهم الانكشارية المتداعية، والإمبراطورية البريطانية تسعى للبعيد: لاحتلال أكبر قدر ممكن من البلدان، لكنّ التاريخ سيتغيّر هنا عبر شخصٍ بسيط، شابّ حلبيّ يدعى: سليمان الحلبي.
بونابرت ينسحب تاركاً إرثه في مصر لكليبر
احتلّ نابليون بونابرت مصر عام 1798؛ آملاً أن يبدأ مشروعه بالشرق، في حين كانت جيوشه بأوروبا تحتلّها، لكنّ بونابرت بعدما استطاع تأمين وضعه في مصر جاءته أنباء بخسارات تواجه جيوشه في أوروبا، فقرر العودة سراّ إلى أوروبا ليلتحق بجيوشه، تاركاً إمرة مصر وجيشه فيها تحت قيادة الجنرال جان باتيست كليبر.
كان كليبر جنرالاً طموحاً ويبدو أنّه كان ذا كفاءة أيضاً، فقد استطاع تثبيت أركان حكمه في مصر، وربما داعبته بعض أحلام الطموح في قيادة وبناء "دولة الشرق" التي كان يحلم بها نابليون (وبالطبع تنضوي تحتها عدة دول أخرى غير مصر).
كليبر يحقق أول انتصاراته الكبرى
ظنّ الإنجليز من ناحية والعثمانيون من جهة أنّ انسحاب نابليون ينذر بضعف جيوشه داخل مصر، فبدأ العثمانيون في تجهيز جيوشهم لغزو مصر واستعادتها من جديد، بمساعدة البريطانيين هذه المرة، الذين لا يريدون أي توسُّع لنابليون في الشرق، عدوهم الرئيس في أوروبا منذ صعوده.
لكنّ الرياح لم تأتِ بما يشتهي العثمانيون والبريطانيون، فقد استطاع كليبر أن يحقق نصره الأساسي في معركة هليوبوليس على العثمانيين، ليقوِّي بهذا النصر السريع والمفاجئ جبهتيه: الداخلية والخارجية معاً، فقد عاد كليبر لينتقم من ثورة القاهرة الثانية ويخمدها بوحشيةٍ كبيرة، فقد دخلت الخيل الأزهر وقتل عديداً من شيوخ الأزهر (قادة الثورة حينها)، ونُصبت المدافع على أسوار القاهرة وقُصف الجامع الأزهر.
قتل الفرنسيون كثيراً من سكّان القاهرة، ومن مشايخ الأزهر الشريف، وكان أحد الذين قُتلوا الشيخ أحمد الشرقاوي، الذي يُقال إنّه كان شيخ سليمان الحلبي.
سليمان الحلبي: من حلب إلى القاهرة.. الوطن واحد والعدوّ واحد
وفقاً لتوافق الروايات، يبدو أنّ سليمان الحلبي كان منضمّاً إلى النضال الشعبي ضدّ الفرنسيين، وبعد إخماد ثورة القاهرة الثانية بهذه الوحشية عاد أدراجه لبلده حلب، لاحقاً يبدو أنّ بعض قادة الانكشارية كانوا يبحثون عن فدائي يقتل كليبر في مصر، ويبدو أنّ هذا الأمر وافق سليمان الحلبي الذي أراد أن ينتقم لشيخه.
غادر سليمان الحلبي بلده للمرة الثانية إلى مصر، وانضمّ إلى رواق الشوام في الجامع الأزهر، وهو رواق لأهل الشام المنضمين إلى دراسة العلم والفقه في الجامع الأزهر.
بعد شهرٍ وبضعة أيّام كانت خطّة سليمان الحلبي قد اكتملت، لتخليص مصر والعالم العربي من هذا الداهية العسكرية خليفة بونابرت المسمّى كليبر.
الخطّة بسيطة وناجحة
ذهب كليبر في صباح يومٍ مُشمس (14 يونيو/حزيران 1800م) إلى جزيرة الروضة بالقاهرة، لحضور عرضٍ عسكريّ لكتيبة منضمة حديثاً إلى الجيش الفرنسي في مصر. أنهى العرض العسكريّ وعاد مع المهندس المعماري للحملة الفرنسية إلى الأزبكيّة -مقر إقامته ونابليون من قبله- في قصر محمد بك الألفي.
لاحقاً، سار كليبر والمهندس في حديقة القصر، قابلهما شابٌ متنكّر في ثياب شحّاذ. مدَّ الشحاذ يده لكليبر، لم يظنّ كليبر أنّه كان يقابل أجَله الآن، فعندما مدَّ يدهُ لهذا الشحّاذ، عاجله الشحّاذ بضربة خنجر نافذة أردته على الأرض قتيلاً، حاول المهندس أن ينقذ قائده، لكنّ سليمان الحلبي عاجلهُ بستّ ضربات، وعاد لكليبر ليطعنه ثلاث طعناتٍ أخرى ليتأكد من موته، وفرّ هارباً!
عندما ذاع الخبر خاف المصريون أن تكون هذه الحادثة سبباً في ثأر وانتقام الفرنسيين منهم، خصوصاً أنّ آثار إخماد ثورة القاهرة الثانية ما زالت حاضرة في أذهانهم، وتلقّى الفرنسيون الخبر بقلقٍ بالغ من أن تكون هذه بداية ثورة ثالثة من المصريين، فهددوا بالثأر وإحراق المدينة.
بعد ساعة عثر جنديان فرنسيان على سليمان الحلبي مختبئاً قريباً من مكان اغتياله لكليبر، قُدِّم سليمان الحلبي لمحاكمةٍ عسكرية، كلّ قضاتها فرنسيون بالطبع.
الانتقام من الانتقام ببشاعة ضخمة! كيف قتل سليمان الحلبي؟
قُدِّم سليمان الحلبي لمحاكمةٍ لن تكون عادلة بالطبع، فلن يقول القضاة الفرنسيون إنّ كليبر محتلٌّ غاصب، ولن يقولوا إنّ سليمان الحلبي انتقم لآلاف المصريين الذين عانوا بسبب الاستعمار الفرنسي، ولا إنه ربما ينتقم لإعدام شيخه المناضل ضد المحتلّ.
وكان الحُكم كالتالي: إحراق يد سليمان الحلبي اليُمنى -لأنها اليد التي قتلت كليبر- ثمّ قتله بالخازوق، وهي طريقة وحشية لقتل الضحية، حيث يتمّ إدخال الخازوق الخشبي في فتحة الشرج على أن يتمّ ضغطه ليخرج من فم الضحيّة، ويُترك هكذا معلَّقاً حياً مخوزقاً مدة أربع أو خمس ساعات!
رُويت عديد من الروايات عن شجاعة سليمان الحلبي في تلقّيه للحكم، فقد وضع يده بنفسه في النار لتحترق دون أن يتأوَّه، وكذلك تقبَّل حكم الخازوق دون هلعٍ أو انهيار.
كذلك حكمت المحكمة على زملائه الأزهريين الأربعة بالإعدام، وقُطعت أعناق ثلاثة منهم أمام عينيه قبيل تنفيذ الحكم عليه، ومع خروج الحملة الفرنسية من مصر بقيادة الجنرال مينو، أخذوا رفات كليبر وخنجر وجمجمة سليمان الحلبي إلى فرنسا، حيث عُلقت جمجمة كليبر باعتباره بطلاً وأسفل منه جمجمة سليمان الحلبي باعتباره مجرماً قضى على حياة هذا "البطل" الذي احتلّ مصر وقتل الآلاف من الأبرياء.
ووفقاً للرواية الفرنسية الرسمية حينها، فإنّ سليمان الحلبي قام بعملية الاغتيال، لأنّ والده كان عليه ديون وضرائب كثيرة، وطلب سليمان من أحد ضباط العثمانيين تخفيف العبء عن والده، فوعده بالموافقة إذا قتل كليبر، وبهذا وافق سليمان الحلبي على اغتيال كليبر مقابل تخفيف الأعباء عن والده، لكنّ هذه الرواية هي الرواية الرسمية التي تعتبر سليمان الحلبي "مجرماً" بحقّ البطل الفرنسي الذي ارتكب عديداً من المجازر بحقّ الشعوب العربية.