هل تتخيّل أن دولة في وسط أوروبا مثل سويسرا ظلت حتى عام 2002 دون أن تنضم إلى الأمم المتحدة، ولا حتى حلف الناتو أو الاتحاد الأوروبي؟ فما هو "قرار الحياد" الذي اتخذته منذ نحو 5 قرون؟
انضمت للأمم المتحدة منذ 2002 فقط!
على الرغم من وجود مكتب الأمم المتحدة الأوروبي في جنيف، فإن انضمام سويسرا إلى المنظمة جاء متأخراً في عام 2002 بعد عقودٍ من تأسيسها. ففي عام 1986، صوّتت أغلبية السكان لصالح الانضمام إلى الأمم المتحدة.
وفي مارس/آذار 2002، أُتيحت الفرصة مرة أخرى للشعب السويسري للتصويت بشأن الانضمام إلى المنظمة.
صوَّت 55% من الناخبين بالإيجاب على القرار، وذلك بعد الاستماع إلى نصيحة الرئيس كاسبار فيليجر، الذي أكد أن سويسرا تنضم كدولة محايدة.
رحبت الأمم المتحدة في 11 سبتمبر/أيلول 2002، بانضمام العضو رقم 190، وأضافت العَلم السويسري إلى الأعلام أمام مقر الأمم المتحدة في نيويورك.
كيف اتخذت سويسرا قرارها بالحياد؟
بعودة سريعة إلى الزمن وعام 1515 نفهم ما حدث.
أعلنت سويسرا نفسها دولة محايدة في معاهدة مع فرنسا عقب هزيمتها بمعركة مارينيانو أمام اتحاد فرنسا وفينسيا في أثناء تحقيق أهداف توسعية. كما اعترفت القوى الأوروبية بحيادها رسمياً في عام 1648 بعد صلح وستفاليا.
اضطرت لاحقاً إلى التنازل عن حيادها عام 1798 عقب ضمها إلى إمبراطورية نابليون بونابرت. وبعد هزيمة نابليون في معركة واترلو 1815، وقّعت القوى الأوروبية الكبرى على إعلان يؤكد الحياد الدائم لسويسرا، خلال معاهدة باريس الثانية.
وهو ما يعني أنها ستكون بمثابة منطقة عازلة قيّمة بين فرنسا والنمسا، وتسهم في استقرار المنطقة.
الحياد المسلَّح خلال الحربين العالميتين
حافظت سويسرا على حيادها خلال الحرب العالمية الأولى، على الرغم من نشوب توترات خطيرة بين الأجزاء الناطقة بالألمانية والفرنسية والإيطالية في البلاد، واقتراب سويسرا من انتهاك حيادها. لكنها تمكنت من الابتعاد عن الأعمال العدائية.
تطوَّر مفهوم "الحياد المسلح" تدريجياً، فتمت تعبئة الجيش المدني، واحترمت الدول المحيطة هذا القرار، كما استقبلت سويسرا اللاجئين.
أثرت تعبئة الجيش على الأجور، وتضاعفت أسعار المواد الغذائية، وبلغت الاضطرابات العمالية ذروتها بالإضراب العام في عام 1918، وشهدت هذه الفترة ظهور الوظائف الخدمية التي لا تزال قطاعاً مهماً فيها.
في عام 1920، تشكلت عصبة الأمم، واعترفت رسمياً بالحياد السويسري، وأصبح مقر العصبة في عاصمتها جنيف. وفي عام 1937، تمكَّن أصحاب الأعمال، وأكبر نقابة عمالية من الوصول لاتفاق رسمي لتسوية النزاعات بطرقٍ سلمية.
ثم واجه الحيادَ السويسريَّ تحدٍّ آخر أكثر أهمية خلال الحرب العالمية الثانية. ففي عام 1940، بعد سقوط فرنسا، وجدت سويسرا نفسها محاصَرة من قوى المحور.
على الرغم من تصريحات هتلر باحترام حياد سويسرا، فإنه خطط لغزوها في "عملية تانينبوم".
ورغم التخطيط، فإنه لم يعطِ أوامره بالغزو. لم يُعلَم سبب عدم الغزو، ولكن بعض النظريات ترجح اقتناعه بأن حيادها له أهمية في الحرب، أو لأن غزو سويسرا سوف يكبده الكثير من الخسائر؛ بسبب طبيعتها الطبوغرافية، فضلاً عن حيازة نحو 20% من السويسريين السلاح، أو ربما لأن الانتهاء من خطة الغزو تزامنت مع خسارة ألمانيا الحرب مع بريطانيا.
حافظت الدولة الصغيرة على حيادها، ولكنها أعدّت تجهيزات عسكرية، وخططاً تكتيكية، وهددت بالانتقام حال حدوث غزو، واستمرت في أداء دورها المحايد خلال الحرب الباردة.
رغم أنها تتوسط أوروبا.. سويسرا ليست عضواً في الناتو أو الاتحاد الأوروبي!
كي لا يؤثر الحياد العسكري على الاقتصاد، أدرجت سويسرا نفسها في النظام الغربي لما بعد الحرب الذي تقوده أميركا -نظام أكثر ليبرالية وقادر على توليد قوة ونمو اقتصادي هائلَين- لكنها ظلت مترددة في دخول الهيئات والمنظمات الدولية.
لا تزال سويسرا تلعب دوراً أكثر نشاطاً بالشؤون الدولية من خلال المساعدة في المبادرات الإنسانية، لكنها محايدة بشدّة فيما يتعلق بالشؤون العسكرية. لم تنضم قَط إلى منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو).
كما حافظت على موقفها المستقل والمحايد، برفضها الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أو استخدام عملة اليورو، وما زالت تستخدم الفرنك السويسري منذ عام 1850. ويعتبر الفرنك السويسري من أقوى العملات في العالم، ويعادل تقريباً دولاراً أميركياً واحداً.
رغم حيادها لديها جيش، وانضمت إلى برنامج الشراكة من أجل السلام
على الرغم من حيادها الطويل، ما زالت البلاد تحتفظ بجيش لأغراض دفاعية، وتتطلب خدمة عسكرية جزئية من جميع الذكور بين سنَّي 18 و34. يُسمح لمن هم بالخدمة الفعلية في جيش سويسرا (جيش الميليشيا السويسري) بحيازة الأسلحة في بيوتهم.
قد لا يمتلك جيش الميليشيا السويسري وحدات قتالية نشطة متفرغة، إلا أنه يضم 4200 محترف. نصفهم على الأقل إما مدربون وإما ضباط أركان، ويعمل الباقون حراساً للمرافق. كما أن الجيش قادر على التعبئة الكاملة خلال 72 ساعة.
توجد بسويسرا، في الوقت الراهن، 1050 امرأة ضمن الخدمة الفعلية بالجيش؛ إذ تسمح البلاد للنساء بالتطوع في قواتها المسلحة والانضمام إلى جميع الوحدات بلا استثناء.
كما ذكرنا مسبقاً، سويسرا ليست ضمن البلدان الأعضاء في منظمة الناتو، إلا أن هذا لم يمنع انضمامها إلى برنامج الشراكة من أجل السلام في عام 1996.
الهدف من الشراكة هو تعزيز الحوار حول السياسة الأمنية في المنطقة الأوروبية الأطلسية، وتعزيز السلام والديمقراطية والأمن في أوروبا. ولكن بالنسبة لسويسرا، يكون التعاون طوعياً لا إجبارياً، ووفقاً لما تراه مناسباً لها.
يقوم التعاون السويسري مع حلف الناتو على سياسة الحياد العسكري الطويلة، ومجالات التعاون العملي التي تطابق الأهداف المشتركة، فلا يعني التعاون التخلي عن الحياد.
إذ يستثني القانون السويسري المشاركة في العمليات القتالية من أجل إنفاذ السلام، وستشارك الوحدات السويسرية فقط في العمليات تحت ولاية الأمم المتحدة أو منظمة الأمن والتعاون بأوروبا (OSCE).
الانضمام إلى الروابط والمؤسسات التجارية
في عام 1960، انضمَّت سويسرا إلى دول أخرى لم تسعَ إلى إدارة أوروبية مركزية، من خلال المشاركة في الرابطة الأوروبية للتجارة الحرة (EFTA) مع النرويج وآيسلندا وليختنشتاين.
وعلى الرغم من عضويتها في EFTA، فإنها ليست عضواً بالاتحاد الأوروبي EU أو في المنطقة الاقتصادية الأوروبية EEA.
كما كانت سويسرا الدولة السابعة عشرة التي تنضم إلى مجلس أوروبا عام 1963، المنظمة الرائدة لحقوق الإنسان.
وفي أعقاب الحرب الباردة، انضمت سويسرا إلى الدول الأعضاء بصندوق النقد الدولي في 29 مايو/أيار 1992.
وفي 5 يونيو/حزيران 2005، وافق 55% من الناخبين السويسريين على المشاركة في معاهدة شنغن كخطوة جديدة في التعاون الدولي. وبدأت المشاركة النشطة لسويسرا بالمعاهدة في ديسمبر/كانون الأول 2008.
تسمح معاهدة شنغن بِحُرية تنقُّل مواطني الدول الأعضاء فيما بينها في حالة حمل جواز سفر سارٍ لإحدى هذه الدول. كما تسمح المعاهدة بوجود تعاون أمني وقضائي. تضم معاهدة شنغن 26 دولة، منها 22 أعضاء في الاتحاد الأوروبي، و4 دول غير أعضاء، من بينها سويسرا.