بدأت قصة مخطوطات البحر الميت كلها بنعجة ضالة!
في يوم عادي من ربيع عام 1947، كان فتىً بدوي يبحث عن نعجة ضلت طريقها عن قطيعه، شمال غربي البحر الميت. وفي أثناء بحثه، لاحظ الفتى، الذي كان يُعرف باسم محمد الذئب، سلسلةً من الكهوف الصغيرة في الجرف المكون من الأحجار الجيرية فوقه. ظن محمد أن نعجته ربما تكون قد دخلت أحد تلك الكهوف، ولأنه لم يُرِد أن يخاطر ويتسلق بنفسه، التقط حجراً ورماه بالداخل.
كان ما سمعه غير متوقع تماماً. فهو لم يسمع ثغاء النعجة الخائفة، ولا صوت ارتطام الصخرة الهادئ وهي تسقط على الرمال الناعمة في قاعدة الكهف؛ بل سمع الصوت المعدني الغريب لتحطُّم الخزف. أثار هذا فضوله، فتسلَّق بصعوبة نحو مدخل الكهف. وفور أن اعتادت عيناه الضوء الخافت بالداخل، فوجئ برؤية 7 جِرار أسطوانية طويلة كانت تحوي وثائق لم يرها إنسان منذ قرابة 2000 عام: مخطوطات البحر الميت.
نصوص أسفار التوراة عمرها آلاف السنين
وبعد مرور 7 عقود، نعرف الآن أن مجموعة مخطوطات البحر الميت تشمل أكثر من 10 آلاف شظية تُكوّن أكثر من 800 من النصوص المختلفة، الدينية وغير الدينية. وتوجد في المجموعة كل أسفار التوراة ما عدا سفر أستير، وتوجد بها 27 نسخة من سفر أشعيا، من ضمنها نسخةٌ حالتها جيدة جداً، وحين تُفرَد يصل طولها إلى 66 قدماً تقريباً (20 متراً). وتوجد أيضاً الوصايا العشر، وتوجد مخطوطات تسرد قواعد مجتمعية مفصلة.
وهناك مخطوطة الحرب التي تحكي حرباً نظرية، استمرت 49 عاماً بين "أبناء النور" و"أبناء الظلام"، ينتصر الأخيار في نهايتها؛ بل توجد أيضاً خارطة كنز مكتوبة على مخطوطة مصنوعة من النحاس. (ولم يزل معناها الحقيقي لغزاً؛ إذ لم يُعثر قط على أي كنز بناءً على توجيهاتها المشفرة العديدة)، والمزيد والمزيد.
تعتقد أغلبية العلماء الآن أن تلك النصوص قد كتبتها ونسختها وحافظت عليها طائفة الأسينيون، التي انعزلت عن بقية المدن اليهودية، والتي كانت تعيش في قمران، وهي قرية صغيرة على بُعد كيلومتر تقريباً من الكهوف. (كانت طائفة الأسينيين واحدة من 4 طوائف يهودية كبرى تعيش في إسرائيل وقتها، وهذه الطوائف هي: الفريسيون، والصدوقيون، والزيلوت أو الغيورون).
قبل اكتشاف المخطوطات، كانت أقدم نسخة كاملة معروفة للتوراة هي مخطوطة ليننغراد، التي تعود إلى عام 1008 بعد الميلاد. (صُنعت المخطوطة أصلاً في القاهرة، لكن اسمها يشير إلى موقعها بالمكتبة الوطنية الروسية في سان بطرسبرغ، التي كانت تُعرف باسم ليننغراد بين عامي 1924 و1991).
نعرف الآن أن مخطوطات البحر الميت يعود تاريخ كتابتها إلى ما بين عامي 250 قبل الميلاد و70 بعد الميلاد؛ لذا فهي أقدم من مخطوطة ليننغراد بـ1000 عام كاملة. والشيء اللافت أكثر أن النصوص التوراتية المحفوظة في مخطوطات البحر الميت ومخطوطة ليننغراد متطابقة تقريباً، وهو ما يدل على أن السجلات المكتوبة يمكنها أن تُظهر رسوخاً ملحوظاً حين يؤمر الكَتَبة بنسخ النصوص حرفياً.
مخطوطات البحر الميت تعيد الاعتبار للروايات الشفهية
منذ عدة أسابيع، أغلق معرض كان يُدعى "مخطوطات البحر الميت"، بعدما استمر 6 أشهر تقريباً، في متحف دنفر للطبيعة والعلوم، حيث يعمل ستيفن ناش أميناً للمتحف وعالِم آثار، وكان العالِم المكلف إقامة المعرض.
كانت مهمته تدريب عدد كبير من المتطوعين المتفانين لتنظيم عروض تقديمية لمحاضرين متخصصين، وإجراء مقابلات مع الإعلام المحلي والإقليمي. كُلف ستيفن العديد من تلك المعارض عبر السنين، وهي من الأشياء التي يحبها في وظيفته، "يتسنى لي أن أدرس بعض أروع المواضيع الأثرية، حتى ولو لم تكن بؤرة التركيز في بحثي"، كما يشرح.
لم يكن ستيفن متديناً؛ لذا تعامَل مع "مخطوطات البحر الميت" بالدرجة ذاتها من التجرد الفكري والفضول العلمي، كما فعل مع معارض أخرى، من ضمنها "يوم في بومبي"، و"المايا: كشف العوالم الخفية"، و"السفر في طريق الحرير". لكنه حين بدأ العملَ على معرض "مخطوطات البحر الميت" منذ عام تقريباً، ساوره شك مُلحٌّ في أن تلك التجربة سوف تكون مختلفة بطريقة ما. لم يعرف لماذا، لكنه يدرك الآن أنها قادته إلى اكتشاف علمي.
حين التحق بكلية الدراسات العليا بصفته عالم آثار في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، أخبروه -بما لا يدع مجالاً للشك- بأن يستبعد السرديات الشفهية لسكان أميركا الأصليين عن التاريخ. لماذا؟ بالأساس، بسبب لعبة التليفون التي يلعبها الأطفال. (مجموعة من الأطفال يقفون في دائرة. يخبر واحد منهم بشيء ما، ويطلب منه أن يخبر الشخص الذي يليه. يكرر ذلك حتى يلف السر الدائرة كلها، وحين يأتي دور الأول مجدداً، سيكون السر قد تغير تماماً، هذا إن لم يصر التعرف عليه محالاً). ورغم أن هذا قياس مقنع ومُغر، فهو يعد تبسيطاً مخلّاً، ويتضمن سوء فهم جوهرياً لكيفية انتقال التاريخ شفهياً. التاريخ الشفهي لا تحفظه ألعاب الأطفال؛ بل يحفظه المختصون.
لو كنت من حَفَظة التاريخ في مجتمع ليست لديه لغة مكتوبة، فإن وظيفتك أن تحفظ القصة حرفياً. ويجب أن تتتلمذ وتتدرب سنوات عديدةً، ويجب أن تجتاز اختبارات وعمليات اعتماد قبل أن تعتبر مؤهلاً لأن تصير حافظاً للتاريخ.
مخطوطات البحر الميت ساهمت في الاستقرار الثقافي
"مخطوطات البحر الميت"، بصفتها أوراقاً وقِطعاً أثرية مصنوعة من البردي، عمرها 2000 عام، لكن القصص المسجلة فيها غالباً أقدم بكثير (من خلال دراسات مشتركة، أجراها علماء الآثار والمؤرخون واللغويون واللاهوتيون على قِطع أثرية وسجلّات غير مخطوطات البحر الميت، وأكدت هذه الدراسات التواريخ المعنيَّة). في الواقع، يصل عمر بعض القصص المنقولة في "مخطوطات البحر الميت" إلى 3 آلاف عام تقريباً، أي إنها تعود إلى زمن النبي داود.
في تلك الفترة، لم تكن العبرية قد صارت لغةً مكتوبةً بعد. دُوِّنت العبرية أول مرة عام 600 قبل الميلاد تقريباً. ويذكر ستيفن أنه صُعق حين أدرك أن هذا يعني أن الكثير من القصص المسجلة في "مخطوطات البحر الميت" قد استمرت تاريخاً شفهياً قروناً من الزمان.
بصفته عالِم آثار، لو اضطر إلى استبعاد مصداقية التقاليد الشفهية للسكان الأصليين لأميركا لمجرد أنها ليست مكتوبة، فإن المنطق يفرض عليه أن يستبعد بعض الروايات المكتوبة في "مخطوطات البحر الميت"، التي بدأت أيضاً بصفتها تقاليد شفهية. ولو فعل غير ذلك، فسيكون قد اتبع معياراً مزدوجاً عنصرياً.
قبل بضع سنوات، وثَّق لغويون وعالِم جغرافيا في أستراليا حالات حافظ فيها البشر على روايات تاريخية شفهية دقيقة عبر أكثر من 400 جيل، في مدة وصلت إلى 10 آلاف عام. ووفقاً للمؤرخ روجر إيكو هوك، فإن أحداثاً وثيقة التقاليد الشفهية لقبيلة باوني قد حدثت في الفترة الجليدية الأخيرة (أي منذ 11 ألف عام على الأقل)، وضمن ذلك عبور البشر بحر بيرنغ وصولاً إلى أميركا الشمالية.
كل هذا دليل على شيء كان ستيفن ناش يشتبه فيه منذ وقت طويل، وهو أن معظم البشر، حتى وقت قريب جداً، كانوا يرغبون في الاستقرار الثقافي ويحافظون عليه، وليس التغيير، فقد كان التغيير تهديداً، ولم يكن يُعتمد إلا عند الضرورة القصوى.
لهذا، فإن الروايات التاريخية الشفهية لسكان أميركا الأصليين، وفي العالم كله، كانت وسيلةً موثوقة للتسجيل والتعلم من الماضي، لمدة استمرت آلاف السنين قبل اختراع الكتابة.