يجعلها موقعها الجبلي المثالي وتراثها المتنوع واحدة من أكثر المدن إثارة في أوروبا. وإلى غاية اليوم، ما يميّز مدينة سراييفو الساحرة هو روحها التي لا تُقهر.
القدس الصغيرة.. مرحباً بك في عاصمة البوسنة الساحرة
في حال ظلت تحية ما راسخة في ذهنك وشحنته بعواطف مختلطة، فهي تلك التي سيقدمها لك سائق سيارة أجرة شاب وهو يبتسم "مرحباً بك في سراييفو".
وجه آخر لمدينة الحرب والمأساة
وعلى الرغم من أن اسم سراييفو، عاصمة البوسنة والهرسك، قد يبدو مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالحرب والمأساة، فإنه في آخر 20 عاماً تم فعل الكثير حتى تُشفى هذه المدينة الرائعة والصامدة؛ إذ أصبحت السياحة في الوقت الراهن تشهد نمواً حاداً، حسب صحيفة The Guardian البريطانية، وفي الواقع، يبدو السبب واضحاً وجلياً وراء ذلك حيث يتمثل في جمال سراييفو. تقع المدينة داخل وادٍ طويل ورفيع وتحيط بها الجبال المليئة بالأشجار من جميع الجهات. كما يقدم تقريباً كل مفترق طريق وركن في الشارع لمحة عن الخلفية الشاعرية التي يمكن أن تشملها صور البطاقة البريدية.
لعنة الجغرافيا الجميلة
خلال أسوأ اللحظات في تاريخ المدينة، عندما كان القناصة يستهدفون السكان، اتضح أن هذه الجغرافيا الدراماتيكية تعد بمثابة أحد المساوئ المرعبة للمدينة، لكن من حسن الحظ أنه أصبح يمكن لنا أن نُعجب ونستمتع من جديد بجمال سراييفو الطبيعي والمدهش. وأفضل طريقة للقيام بذلك هي العثور على أعلى نقطة ممكنة، فمع إعادة فتح آخر تلفريك مشهور في سراييفو، أصبحت الرحلة على سفح الجبل مرة أخرى سهلة. وتأخذك أقصر نزهة على الأقدام من حي باسكارسييا إلى محطة التلفريك البراقة والجديدة الواقعة على سفوح جبل تريبفيتش، إحدى القمم التي استضافت دورة الألعاب الأولمبية الشتوية عام 1984.
مقابل مبلغ قدره 20 ماركاً بوسنياً (نحو 10 جنيهات إسترلينية)، يرفعك هذا التلفريك، الذي يجب عليك ركوبه، أكثر من 1100 متر في سبع دقائق، مقدّماً لك مناظر خلابة على طول الطريق. في القمة، يتغير المشهد مثلما يحدث عندما تنظر إلى شيء ما بواسطة المشكال. وخلال الفترة الزمنية القصيرة التي قضيتها على سفح الجبل، رأيت في الأسفل منظر المدينة الذي يتسم بحرارة الجو تحت سماء زرقاء صافية، سرعان ما أصبح غامضاً بسبب دوامات الضباب التي بدت كأنها تظهر من العدم.
شاهد بعضاً من هذه الجغرافيا الساحرة في المقطع المرئي التالي
الشرق في الغرب.. أو سراييفو الأوروبية
يرفض هذا المشهد الطبيعي مقارنته بمعظم المدن الأوروبية الأخرى. وعموماً، تزيّن المساجد والمآذن فضلاً عن أبراج الكنائس الكاثوليكية المشيدة على الطريقة الرومانيسكية وقباب الكنائس الأرثوذكسية التي تشبه شكل البصل، الأفق وهو ما يعد أمراً إضافياً يجعل هذه المدينة رائعة، فهي عبارة عن مكان يلتقي فيه الشرق والغرب. وفي شارع المشاة الرئيسي، الذي يطلق عليه اسم فارهاديا، والذي يعد بمثابة منارة ثقافية بقيت آثارها على الرصيف للأجيال القادمة، تم وضع لافتة تشجع الزوار على التقاط صورة وهم ينظرون في البداية إلى أعلى الطريق ثم إلى أسفله.
إن التباين الذي تشهده المدينة صارخ، حيث يمكن للناظر رؤية العمارة النمساوية والمجرية، فضلاً عن فسيفساء من لافتات التسوق الغربية انطلاقاً من اتجاه واحد. في المقابل، يتغير المشهد بشكل مفاجئ ويتحول إلى بازار تركي بمجرد أن تدير رأسك قليلاً. وعلى أحد جانبي هذا الخط، يجلس الناس ويشربون الجعة على طاولات نُصبت في الشارع، بينما في الجهة المقابلة، لا توجد أية قطرة من الكحول. عوضاً عن ذلك، ستجد مقاهي ذات واجهة مفتوحة تقدم قهوة بوسنية قوية بالإضافة إلى النرجيلة.
مقاهٍ وموسيقى وسيارات عتيقة
بعد شارع فارهاديا في اتجاه المقهى، ستجد نفسك بقلب حي باسكارسييا وحتماً في قلب الصخب الممتع الملقب بـ"ميدان الحمائم". يمكنك أن تشاهد مشهد غريب يتمثل في توقف العشرات من السيارات الصغيرة التي بدت كأنها شبيهة بسيارات "Fiat 500" الكلاسيكية، إلا أنها في الواقع سيارات يوغسلافية من طراز "Zastavas". وعلى غرار المناظر الطبيعية التي تراها من جبل تريبفيتش، تتغير الدراما في ميدان الحمائم باستمرار. لكن الأمر الوحيد الثابت هو المثلجات الرائعة التي تباع من قِبل الباعة المتجولين ضمن مجموعة مغرية من النكهات؛ إذ ستكلفك ملعقة واحدة من المثلجات نحو جنيه إسترليني، حسب صحيفة The Guardian البريطانية
للحصول على خيارات أوسع من المشروبات الخفيفة، يمكنك التوجه إلى غازي خسرو بك، وهو شارع ضيق يلتصق به من جانب واحدٍ السوق الداخلي المعروف باسم بيزيستان القديم. ويكتظ الشارع بطاولات المقهى، حيث يمكن أن يستغرق انتظارك الحصول على كوب من القهوة هنا وقتاً طويلاً.
يعتبر مقهى راميس، الذي يقع في الزاوية ويستقطب السكان المحليين والزوار الأجانب على حد السواء، خياراً جيداً، وتطل شبابيكه المفتوحة بالكامل على الشارع. كما لا يوجد هناك فرق كبير بين الجلوس في الداخل أو الخارج، لكن خلال قضائك وقتاً للاسترخاء في الداخل، تحيط بك النماذج الهندسية العثمانية، بالإضافة إلى أشخاص سعداء يأكلون الكعك.
وكعك تراثي لذيذ
يكشف الكعك الكثير عن تراث مدينة سراييفو المتنوع مثلها مثل جميع المعالم الأخرى في هذه المدينة. ويقدم المقهى تارت زاخا إلى جانب كريمبيتا كولاك (شريحة كاسترد تشتهر بها دولة البوسنة والهرسك)، فضلاً عن كعكة بدت لي مثل البابا روم. ومهما كان اختيارك، فإنك لن تندم.
ومساجد وكنائس مذهلة
يقع مسجد غازي خسرو بك، وهو مَعلم آخر لا يمكن تفويت زيارته في حي باسكارسييا، على بعد مسافة قصيرة. في الواقع، لا يمكنك غض الطرف عنه؛ نظراً إلى أنه يعتبر أكبر مسجد عثماني في دولة البوسنة والهرسك، وهو مذهل من جميع النواحي. ويستخدم هذا المسجد كوجهة سياحية تلبي حب الاطلاع لدى السياح ويستقبل العديد منهم. وعلى غرار كنيسة القلب المقدس الكاثوليكية، التي توجد على الجهة الغربية من شارع فرهاديا، تضرر المسجد بشكل كبير خلال الحرب، حيث إن استمرار وجوده يجعله رمزاً هاماً للمدينة.
إذاً، لماذا يلف المدينة ضباب الرعب القديم؟
تمنحك مدينة سراييفو انطباعاً رائعاً لدرجة أنه من الصعب للغاية إدراك رعب ما حدث في منتصف التسعينيات. لكن، في الحقيقة لن تحتاج إلى البحث عن الأدلة؛ نظراً إلى أن أي مبنى يعود إلى تلك الحقبة من المرجح أن يكون مليئاً بثقوب الرصاص. علاوة على ذلك، توجد الحديقة التذكارية في متنزه فيليكي، الواقع قبالة أحد أكثر مراكز التسوق ازدحاماً في مدينة سراييفو، التي تخلد بهدوء ذكرى 1500 طفل لقوا مصرعهم خلال الحصار الذي امتد على مدار 44 شهراً.
حتى دون التطرق إلى الدور الذي لعبته في إشعال فتيل الحرب العالمية الأولى، قد يبدو تاريخ سراييفو حزيناً بشكل لا يصدق. وعلى الرغم من ذلك، لا تبدو المدينة كأنها مكان يغلب عليه الحزن عند زيارتها. فعندما تأتي إلى هنا، تشعر بأن المدينة تتطلع في الوقت الراهن إلى المستقبل، وهي تفعل ذلك بكرامة وصمود وروح وأمل لا يقهر. وإذا كنت ترغب في اكتشاف مكان رائع، فعليك التوجه إلى سراييفو.