كان متسامحاً مع أعدائه حتى إنه جعل نفسه حامياً لكنيستهم، ولكنه رغم ذلك قيل إنه سنَّ قانوناً وحشياً يسمح بقتل الإخوة، أو "قانون قتل الإخوة". فُتحت القسطنطينية عام 1453م على يد محمد الفاتح ، ولكن كان من الممكن أن تُفتح قبل ذلك بنصف قرن، غير أنه تعذر على العثمانيين ذلك؛ بسبب الهزيمة التي تلقوها على يد القائد الشهير تيمورلنك في معركة أنقرة وما أعقبها من فوضى.
ويبدو أن هذه الفوضى أثرت بشكل كبير على طريقة تفكير السلطان محمد الفاتح، فقرر لكي يحافظ على الدولة أن يسنَّ هذا القانون الغريب.
فما هي حكاية هذا القانون الذي اختلطت أخباره بالأساطير والافتراءات، والأغرب أنه وجد تأييداً من قِبل بعض الكُتاب الغربيين.
معركة أنقرة النهاية الأولى للدولة العثمانية
في معركة أنقرة التي وقعت في يوليو/تموز عام 1402م، حارب فيها السلطان العثماني بايزيد الأول القائد التتري تيمورلنك، الذي اعتبر نفسه وريثاً للمغول، وخاصة قائدهم الشهير جنكيز خان واتبع أساليبه.
سارع بايزيد الأول بترك حصاره القسطنطينية واستعان بجيش كبير من الإنكشارية، ومرتزقة المغول وجيش صربي من الفرسان المسيحيين بقيادة بيتر لازاروس وقوات أخرى من إمارات أوروبية خضعت للسلطنة؛ للتصدي لتوغل تيمورلنك في الأناضول.
ولاقى بايزيد جيوش تيمورلنك التي كانت تتفوق عدداً، كما قامت بعدة مناورات خادعة للجيش العثماني، الأمر الذي كان أحد أسباب هزيمة السلطان العثماني ووقوعه في الأَسر هو وأحد أبنائه.
بعدها بعام، مات السلطان العثماني بايزيد، الذي كان يلقب بـ"الصاعقة"، في الأسر عام 1403م بمدينة أمد شهر، وسمح تيمورلنك لولده موسى بأخذ جثمان أبيه ودفنه بجوار مسجده في مدينة بورصة بالأناضول.
صراع الأبناء الأربعة بعد وفاة والدهم السلطان
دخلت الدولة العثمانية بعد معركة أنقرة في أزمة خطيرة، فبعدما تُوفي السلطان بايزيد وابنه البكر أرطغرل بن بايزيد بقي من أبنائه محمد وعيسى وموسى وسليمان.
أما مصطفى الذي انقطعت أخباره بعد المعركة الكبرى، فقد أجمع الكثير ممن شاركوا في المعركة آنذاك أنه قُتل.
تنازع الأخوة الأربعة الحكم فيما بينهم، في فترة من أكثر فترات الإمبراطورية العثمانية تخبُّطاً، والتي أوقفت فتوحاتها وكان يمكن أن تنهي مسيرتها.
الأمر وصل إلى أن أحدهم سلَّم أراضي الدولة للبيزنطيين!
استقل أكبر الأبناء، سليمان، بالجزء الأوروبي من الدولة العثمانية، وضمنه مدينة أدرنة وأعلن نفسه سلطاناً هناك، وعقد حلفاً مع مانويل الثاني إمبراطور بيزنطة؛ ليساعده ضد إخوته، وأعطاه في سبيل ذلك مدينة سالونيك وبعض سواحل البحر الأسود وتزوج إحدى قريباته.
أما عيسى، فبمجرد وفاة أبيه أعلن نفسه سلطاناً في مدينة بورصة، وأعلن نفسه أنه خليفة أبيه السلطان بايزيد.
في حين كان هؤلاء الإخوة يتنازعون، كان أخوهم محمد، الملقب بـ"محمد جلبي"، مختبئاً في الأناضول من جيش تيمورلنك، منتظراً أن تخفّ حدة الهجوم التتري، ثم جمع ما استطاع من عداد القوات الأناضولية والنظامية وقاتل ما بقي من التتار، وتمكن من السيطرة على مدينتي توقات وأماسيب، واستطاع تخليص أحد إخوته الواقعين في الأَسر وهو موسى، واتفق معه على محاربة إخوته، لتنشب الحرب بين هؤلاء الإخوة على جسد الدولة العثمانية، في حين رحل تيمورلنك بعد عام بجيشه وترك وراءه آسيا الصغرى في أسوأ حال بعد أن أصابها الدمار والخراب والفوضى.
استطاع محمد بعدها بعام أن ينتصر على أخيه عيسى بعد عدة معارك بينهما انتهت بمقتل عيسى، ثم أرسل جيشاً بقيادة أخيه موسى لمحاربة أخيهما سليمان، الذي استطاع أن ينتصر على سليمان وجيشه على أبواب أدرنة عام 1410م، بعدما لقي الأخير حتفه في الحرب.
والآن قرر الأخوان المنتصران توحيد جهودهما ضد الصرب.. ولكن الأمر لم يستمر طويلاً
قرر موسى إعادة الهجوم على أراضي الصرب بعدما علِم أن موقفهم كان متخاذلاً في معركة أنقرة، وانتصر عليهم بعد معارك دامية انطلق بعدها إلى المجر، وحاصر القسطنطينية بهدف الاستقلال بالجزء الأوروبي من الإمبراطورية.
لكن، لم يلبث أن تنازع الأخان المتحالفان محمد وموسى؛ فملوك المجر طلبوا الحماية من السلطان محمد جلبي الأخ الأكبر الذي تحالف بالفعل مع المجريِّين والصرب وحارب أخاه موسى وهزمه، وعندما قُتل موسى صار محمد جلبي خامس السلاطين على الإمبراطورية التي أُعيد لَمّ شملها عام 1413م.
وهكذا انتهت الأزمة التي وقعت بعد الهزيمة في معركة أنقرة، ولكن فِتن الإخوة لم تنتهِ بعدُ من تاريخ هذه الدولة.
عودة الابن المختفي تشعل الفتنة من جديد!
بعد وفاة السلطان محمد جلبي، تولى السلطنة ابنه الأمير مراد الثاني.
تمكن السلطان مراد من القضاء على حركات تمرد عديدة، كان من أهمها تلك التي قادها عمّه مصطفى جلبي بن بايزيد، الذي اختفى بعد معركة أنقرة وظن الجميع أنه قُتل، وحاول بشتّى الطرق أن يسيطر على مقاليد السلطنة، بدعم من بعض أمراء أوروبا، على رأسهم مانويل الثاني إمبراطور بيزنطة، حتى استطاع مصطفى أن يُحاصر مدينة جاليبولي، إلَّا أن السلطان مراد الثاني قبض على عمِّه وقدَّمه إلى المشنقة بتهمة الخيانة والعصيان.
واستطاع مراد الثاني بعدها أن يفتح ألبانيا عام 1431م، وخاض العديد من الصراعات بعد فتحها مع أمراء أوروبا، الذين بذلوا كل جهد لزعزعة الحكم العثماني في ألبانيا، ثم انتقل إلى جبهة أخرى وهي المجر، واستطاع أن يحارب جيشاً كبيراً من المجريِّين بضراوة بغية فتح المجر، لكنَّ تحالف العديد من الأمراء الأوروبيين ضده بمباركة البابا في روما، جعل من العسير على جيوش مراد الثاني أن تُكمل حملتها، وأُبرمت معاهدة صلح بينه وبين ملوك الصرب والمجر مدَّة 10 سنوات في سيزجادن، وذلك في يوليو/ تموز 1444م.
أمراء أوروبا ينقضون العهد.. والفاتح يبدأ ولايته
بعد عودته إلى الأناضول منهَكاً وقد فقد ابنه ووليَّ عهده الأمير علاء، زهد مراد الثاني المُلك ولم يعد في حالة قوية بما يلائم مهام السلطان، فتنازل عن العرش لابنه محمد الثاني، البالغ من العمر آنذاك 14 عاماً، والذي لُقِّب فيما بعد بمحمد الفاتح، وأحاطه بالكثير من أهل العلم والخبرة؛ لمساعدته في إدارة شؤون البلاد، وانعزل في مدينة بعيدة عُرفت بمغنيسيا.
لكنه لم يلبث أن تلقى أخبار نقض أمراء أوروبا المسيحيين العهد، وعزمهم محاربة العثمانيين وطردهم من أوروبا، فعاد من عزلته وحاربهم في واحدة من أشرس معارك التاريخ العثماني، وهي معركة فارنا التي انتصر فيها نصراً كبيراً.
تولى محمد الثاني، الملقب بـ"الفاتح"، السلطنة بعد وفاة أبيه عام 1451م، وكانت أولى مهامه التي لا تفارق مخيلته فتح القسطنطينية، التي استطاع أن يفتحها بالفعل عام 1453م بعد زحفٍ عسكري يعدُّ واحداً من الفترات الفاصلة في تاريخ أوروبا بأكملها، وتوجَّه بعد الفتح إلى كنيسة آيا صوفيا وأمر بتحويلها إلى مسجد، وكذلك أمر بإقامة مسجد في موضع قبر الصحابي "أبي أيوب الأنصاري"، الذي استشهد خلال محاولات الأمويين فتح القسطنطينية.
قرر محمد الفاتح اتخاذ القسطنطينية عاصمة لدولته، وأطلق عليها اسم "إسلام بول" أي دار الإسلام، ثم حُرِّفت بعد ذلك واشتُهرت بـ"إسطنبول". وانتهج سياسة متسامحة مع سكان المدينة، فكفل لهم ممارسة عباداتهم في حرية كاملة وسمح بعودة الذين غادروا المدينة في أثناء الحصار إلى منازلهم.
حقيقة قانون قتل الإخوة
رغم التسامح الذي أظهره محمد الفاتح بعد فتح القسطنطينية، حتى إنه اعتبر نفسه حامي الكنيسة الأرثوذكسية، وترسيخه للدولة العثمانية، فإنه سنَّ قانوناً غريباً ومثيراً للجدل، يبدو من خلاله أنه تأثر بالفتن التي شهدتها الدولة بين الإخوة، خاصة تلك التي وقعت بعد معركة أنقرة قبل نصف قرن من فتح القسطنطينية.
فقد نُسب إلى هذا السلطان الشهير ما عُرف تاريخياً بقانون قتل الإخوة، الذي يبيح قتل الإخوة أو الآباء أو الأبناء في حال تمرُّدهم أو تصارعهم على السلطة، وهي ممارسة وُجدت في إمبراطوريات عديدة سابقة على العثمانيين.
ويرفض العديد من المهتمين بتاريخ الدولة العثمانية توصيف القانون باعتباره قتلاً للإخوة، ووصمه بالبربرية، فقد ذكرت مصادر تاريخية أن الأمر لم يكن يعني القتل لإخوة السلاطين دون تهمة، لكن له مبررات قانونية وفقهية بالنظر إلى الصراعات المريرة التي عاشتها الدولة العثمانية عقب وفاة بايزيد الأول إلى حين وصول السلطان محمد الفاتح للسلطنة، والذي رغب أولاً وأخيراً في استقرارها وإبقائها بعيداً عن تكرار مأساة الماضي القريب.
ويفسر كتاب الدولة العثمانية المجهولة، للمؤرخَين التركيَّين أحمد آق كوندوز وسعيد أوزتورك، هذا القانون كما يلي:
إنه تطبيق وإقامة لحدّ البغي؛ أي حد العصيان ضد الدولة، ويمثل المرتكز الشرعي الأول لمسألة قتل الإخوة وجود جريمة العصيان بالخروج على الدولة بالسلاح وموالاة الأعداء.
وتدخل هذه العقوبة في الإسلام ضمن جريمة حد البغي، الذي تتكون بنوده من محاولة الخروج على الإمام أو السلطان، ومحاولة الاستيلاء على الحكم بالسلاح والقوة والمغالبة؛ أي وجود هدف العصيان بشكل واضح.
ولا يجوز بناءً على ما سبق، التعرض لمن يخالف رأي السلطان بصورة سلمية أو لم يعلن عصياناً مسلحاً، فإن أعلنوا عصياناً تُوقَع عليهم عقوبة الإعدام، أي في مصطلحات عصرنا هذا الإعدام لارتكابهم خيانة عظمي.
ولكن.. ماذا عن السلطان الذي قتل 19 من إخوته؟!
يبدو أن الأمر شهد توسُّعاً في الاشتباه -إن صح التعبير- بعد محمد الفاتح؛ إذ تشير بعض التقديرات إلى أنه على مدار تاريخ الإمبراطورية العثمانية، تم إعدام 60 أميراً.
وقد أُعدم 16 منهم بسبب ثورتهم على السلطان، في حين قُتل 7 منهم بسبب نياتهم للثورة، ولأسباب أخرى مرتبطة بمحاولة تحقيق مصالحهم.
وكان الأمراء العثمانيون يُعدَمون عن طريق الخنق، حيث حظرت التقاليد التركية المنغولية إراقة دماء أفراد الأسرة الحاكمة.
وأيد بعض رجال الدين -على ما يبدو- هذا التوجه؛ فالفقيه الحنبلي السوري ريان الكرمي (توفي 1624)، اعتبر أن إعدام الأمراء كان فضيلة السلالة العثمانية، حسب تعبيره؛ لتفادي الثورة بين المسلمين ووضع البلاد في مصاعب.
وقال إنه على الرغم من أن الشخص ذا الحس السليم لا يعترف بهذا القرار، فإنه وجد فائدة كبيرة فيه، وقال إنه يفضل إعطاء فتوى لإعدام 3 أشخاص من أجل حماية 30 شخصاً، حيث رأى أن انهيار السلطنة المغربية حدث بسبب عدم وجود إعدام الإخوة في السلطنة.
ولكن بعد صعود السلطان أحمد إلى العرش في عام 1603م، توقَّف هذا الأمر، وكان ذلك دلالةً على شخصيته المتسامحة؛ إذ كان درويشاً ولم يكن لديه طفل عندما أصبح سلطاناً.
وقد يكون سلوكه مرتبطاً بسخط الجمهور، الذي ظهر بعد أن أعدم والده السلطان محمد الثالث أشقاءه الـ19 بعد توليه العرش!
وعندما توفي السلطان أحمد في 1617م، اعتلى أخوه العرش على الرغم من أن السلطان أحمد خلف أبناء.
وكانت هذه هي المرة الأولى التي يتولى فيها الحكم شقيق السلطان بعد وفاته، فحتى ذلك الحين، كان السلطان يتبعه دائماً في الحكم ابنُه، وبعد هذا تم إلغاء قانون إعدام الأمراء.
مفكر فرنسي يعتبر أن توريث الإخوة إذنٌ بتدهور الدولة العثمانية
الغريب أن الكاتب الفرنسي ألفونس دي لامارتين اعتبر أن توريث الحكم للإخوة كان من عناصر إضعاف السلطنة العثمانية؛ لأن السلطان أصبح كبير السن عادة، ما جعل فترة حكمه قصيرة وتفتقد الدينامكية.
كما أن حظر إرسال الأمراء إلى الولايات؛ منعاً لتمردهم، وإبقاءهم في القصر، حالا دون اكتسابهم خبرة الحكم، وزاد من نفوذ الوزراء والإنكشارية بعد أن استُبعد الأمراء من الحكم بالإقاليم.
ويبدو أن قانون قتل الإخوة بصرف النظر عن الظروف المحيطة بتطبيقه، والافتراءات أو المبالغات التي طالته، إنما هو محاولة جادة من قِبل العثمانيين لمعالجة إشكاليات الصراع على الحكم والتي واجهتهم وواجهت كل الدول، سواء من قبلهم أو بعدهم، والتي كانت فيها القوة هي الوسيلة الرئيسية للوصول للحكم بدلاً من أن يكون هناك طريقة قانونية تنظم التنافس على السلطة.
فعندما يصبح السيف هو سبيل الوصول للسلطة، وليس إرادة الناس، فإن السيف أيضاً سيكون الوسيلة لإبعاد المنافسين حتى ولو كانوا إخوة، أو في أفضل الأحوال قد يصبح السجن وسيلة أرحم لإزاحة المنافسين على السلطة.