ما بين اليوتوبيا والدستوبيا شعرة فاصلة كشفها الإبداع الأدبي، عندما استجاب في فترات زمنية معينة لأحلام المدن الفاضلة، فقرأنا يوتوبيا توماس مور، ومن قبله تعرَّفنا على مدينة الفارابي الفاضلة التي يحكمها العدل والخير والجمال.
لكن الواقع الكابوسي الذي عاشه العالم في الحربين العالميتين جعل من أحلام اليوتوبيا وهماً. فقد سادت "الدستوبيا" وكوابيس السيطرة الكاملة على الإنسان باسم الدولة حيناً وباسم العلم أحياناً، في محاولة لخلق يوتوبيا وهمية، تجعل الإنسان آلة، من أجل تحقيق فكرة النقاء العرقي أو إنتاج إنسان سوبر.
وإذا كنا عرفنا اليوتوبيا أو المدينة/الحلم، فإن الديستوبيا رغم انتشارها لا تزال بحاجة إلى معرفة وقراءة ربما نستطيع الفكاك من سطوة الدولة الشمولية التي تتحكم في البشر.
والديستوبيا كلمة يونانية قديمة مشتقة من مقطعين، الأول "ديس" بمعنى سيئ والآخر "توبوس" بمعنى مكان، وبالتالي هي كلمة تستخدم للتعبير عن مجتمع يسوده المأساة والبؤس والفقر والكبت والفساد والجريمة. وكثيراً ما يستخدم هذا المصطلح أدبياً للتعبير عن تردّي الأوضاع السياسية والاجتماعية في ظل الأنظمة الشمولية، سواء في أقصى اليمين، أو أقصى اليسار، بمختلف الأنظمة السياسية.
إلا أن استخدامه غالباً يتجه ناحية الفكر الشمولي اليساري الذي تتجمع فيه كل الخيوط بأيدي الدولة، ومركزية الاقتصاد، وبغضِّ النظر عن المنحى أو الاتجاه الذي تركز عليه الديستوبيا في العمل الأدبي، إلا أن هناك عدداً من الخصائص المشتركة.
فهي تتسم بغياب المشاعر الإنسانية وتحول المواطن إلى مجرد آلة في ترس الإنتاج، أو مجرد رقم في السجلات، وتحطيم الفروق الفردية بين الناس، بجانب ادعاء القيادة أو السلطة بتحقيقها اليوتوبيا.
واليوتوبيا نقيض الدستوبيا -وتعني اللامكان أو المدينة الفاضلة- وهو ما يشير صراحة وعبر المجاز في آنٍ، إلى فشل الأنظمة في تحقيق وعودها باليوتوبيا أو بالحكم الرشيد
وهناك فارق جوهري بين الإثنين يتمثل في قيام الدستوبيا بتشجيع السلوك الرشيد لمواطنيها فقط عن طريق الخوف.
ونرى في الديستوبيا كيف يتم التحكم في حياة الأشخاص، وكيف يتم فرض العديد من القيود الاجتماعية وقولبة وتنميط الأفراد في قوالب اجتماعية جاهزة، لتحقيق التناغم في طبقات المجتمع. كما تكشف الديستوبيا الأدبية كيف تتعامل السلطات مع المواطنين بقمع الحريات الفردية للأشخاص، أو تكشف تحطم القيم الاجتماعية لدى الأفراد أو توجهها في خدمة الدولة.
في الأنماط التي تعالج فكرة الديستوبيا في الأعمال الإبداعيه يغيب المجتمع المدني، أو أي قوة اجتماعية موازية لقوة الدولة أو السلطة.
هذه قائمة بالعمال ارتكنت إلى فكرة الديستوبيا أو عبَّرت عنها
الدولة الشمولية في 1984.. الأخ الكبير يراقبك
تعد رواية "1984" لجورج أورويل دستوراً للدولة الشمولية، وإن كانت تسمح بدستور فهي تحوي تطبيقاً لجميع الآليات التي يجب اتباعها لقمع المواطنين وترويضهم في سبيل الحفاظ على السلطة، وهي الديستوبيا الوحيدة التي قمعت أساليب المقاومة فيها، وأنهت الرواية بمأساوية شديدة.
تدور أحداث الرواية عن "ونستون" المواطن في دولة "أوشيانيا" المتخيلة، الذي يعمل بوزارة "الحقيقة" التي تعادل وزارة الإعلام في عالمنا، يختص عمله بتزوير الحقائق والتاريخ، فتكون الحقيقة المطلقة فقط لدى السلطة، التي تقوم بتغذية مواطنيها معرفياً، بما يحقق مصلحتها فقط عن طريق ما يسمى "التفكير المزدوج".
وتتم مراقبة المواطنين سواء بالحركة، أو الإيماءة، أو الصوت إلى حد التفكير نفسه للتأكد من عدم وجود فكر مخالف لما تعتنقه الدولة أو مقاومة لفكرها.
يبدأ ونستون بالتساؤل والتفكير عما كان عليه الوضع قبل الحزب، ويكتب مذكراته فيقع فيما يسمى "جريمة الفكر"، ويتعرف إلى فتاة، يستمتعان معاً بتحطيم القواعد، ويظنان أنهما بمنأى عن المراقبة، حتى يتم الفتك بهما، وتعذيبهما وتحطيمهما معنوياً، حتى يفقدا أيضاً قيمتها الإنسانية، وتنتهي الرواية كما ذكرنا سابقاً بانتصار الدولة الشمولية على المقاومة الفردية.
عالم جديد شجاع
من الديستوبيات التي أوضحت الشعرة الفاصلة بين المدينة الفاضلة "اليوتوبيا" والمدينة الواقعية "الديستوبيا"، رواية عالم جديد شجاع للكاتب الإنكليزي ألدوس هكسلي، حيث تدور أحداثها في عالم يبدو كل من فيه سعداء وراضين، حتى يدركوا أنهم فقدوا حريتهم الإنسانية، وأنهم بؤساء ومخدّرون من جانب السلطة الغاشمة للدولة. وهي من الديستوبيات التي أوضحت أيضاً فكرة التنميط، حيث تقوم الدولة بإنتاج الأطفال صناعياً بجينات معينة لخلق جيل ينتمي إلى فصيلة معينة متطورة.
وتقسم الرواية العالم إلى فصائل محددة، وتستخدم الدولة مع مواطنيها المخدر، لتضمن خضوعهم تماماً لها، وليكونوا في حاجة دائمة لها يستجدون رضاها.
إلا أن الهاجس الأكبر للرواية لم يكن الكشف عن سيطرة الدولة على مواطنيها فقط، بل الكشف عن سيطرة العلم على الحياة، إلى الحد الذي يجعل المواطن كالآلة، يفقد مشاعره الإنسانية، ويستغني عنها في وجود بدائل علمية تحقق له سعادة زائفة، لا يدرك زيفها إلا حين يدرك مرة أخرى المشاعر الإنسانية وتفاصيلها.
وهو ما حدث في الرواية عندما اكتشفوا العالم "البدئي".
451 فهرنهايت
"أدر عقل الإنسان في آلة الطرد المركزي لتتخلص من كل الأفكار غير المجدية والمضيعة للوقت".. كان غياب الأفكار والكتب والأدب والمشاعر الإنسانية الهاجس الأكبر وراء ديستوبيا 451 فهرنهايت، التي كتبها الروائي الأميركي راي برادبري، وتحولت إلى فيلم من إخراج فرانسوا تروفو في العام 1966.
عرض هذا الهاجس الكابوسي في عمل أدبي يكشف عن دولة تحرق الكتب من خلال عمال الإطفاء، التي أصبحت مهمتهم حرق الكتب بالمنازل التي تحويها وأحياناً بمن فيها من البشر.
تكشف الرواية كيف أصبحت الأفكار النقدية محرمة، كما أنه ليس في تلك المدينة ثمة أدب أو علوم نفس أو علوم اجتماع. ففي الرواية استعاضت الدولة عن المعرفة بوسائل الإعلام التي تبث الأكاذيب وتقوم بتنميط وبرمجة العقول، حيث تكون عقول المواطنين طيعة أمام الأكاذيب وسهلة التشكيل.
يوتوبيا
وعلى الرغم من أن اسم الرواية يوحي بمدينة فاضلة فإن رواية المصري أحمد خالد توفيق تنتمي إلى الدستوبيا لا المدن الفاضلة.
فهاجس هذه الرواية هو كشف التفاوت الطبقي داخل المجتمع، حيث تصور كيف أن يوتوبيا الأغنياء وعلية القوم لا تقوم إلا على أنقاض الفقراء، إلى الحد الذي يجعلهم كالحيوانات الأليفة لديهم، وأرواحهم بلا ثمن تضيع في سبيل نشوة الصيد لدى الأثرياء، فتنهار المشاعر الإنسانية في كلتا الحالتين، سواء الرفاهية المطلقة للأغنياء، أو ذل ومهانة الفقراء.
وتقوم الرواية على استعراض أوجه التفاوت عندما يستوحش إلى هذا الحد، الذي اعتبره الكاتب الجحيم الأرضي.