عانى أغلبية العلماء والمشاهير من أمراض نفسية مختلفة على مرِّ التاريخ، الأمر الذي أثار تساؤل العلماء حول وجود علاقة بين المرض العقلي -كالاكتئاب والاضطراب ثنائي القطب (اضطراب نفسي يتميّز بتناوب فترات من الكآبة مع فترات من الابتهاج غير الطبيعي)- والإبداع الفنّي والأدبي.
فإسحاق نيوتن نفسه أصيب بالاكتئاب والانهيار النفسي، كما عانى الرسام الهولندي فان غوخ من اضطراب ثنائي، وانتحر نجم الروك "كريس كورنيل" بعد معاناة لسنوات طويلة مع الاكتئاب الشديد! أضف إليهم روبرت شومان الموسيقار الألماني الشهير، الذي حاول أن ينتحر مرّتين في حياته، ثم مات بعدها بعامين في مستشفى للأمراض العقلية.
وأصيب فينسنت فان غوخ أحد أشهر الرسّامين وأكثرهم تأثيراً في تاريخ الفن الغربي بنوبات متكررة من الاكتئاب والهَوس، إلا أن معدلات إنتاجه في السنوات الخمس الأخيرة من حياته ارتفعت بشكل ملحوظ!
بيتهوفن، إميلي ديكنسون، الرئيس الأمريكي السابق إبراهام لنكولن، ملكة إنكلترا السابقة إليزابيث الأولى، الكاتب الإنكليزي الشهير تشارلز ديكنز، ورئيس وزراء إنكلترا في الحرب العالمية الثانية ونستون تشرشل، والكثير من المبدعين الذين قادوا البشرية نحو التقدم، عُرف عنهم صراعهم مع الاكتئاب والأمراض النفسية.
دراسات حول العلاقة بين الإبداع والأمراض النفسية
كان لينغ إيخباوم في عام 1931 أولَ من بحث في العلاقة بين الإبداع والأمراض النفسية، في دراسته أجرى مقابلات مع أكثر من 800 من العباقرة المعروفين في ذلك الوقت، وكان الأغلبية ممن أجريت عليهم هذه الدراسة يعانون بالفعل من مشكلات نفسية!
ووجدت دراسة أجريت عام 2013، نُشرت في مجلة البحوث النفسية، أن الذين يعملون في الأماكن التي تتطلب إبداعاً سواء كان فنياً أو علمياً هم أكثر عرضة للإصابة بالاضطراب ثنائي القطب أو أقرب إلى هذه الحالة.
وفي دراسة جيمس مككاب (James MacCabe) التي نُشرت كذلك في المجلة البريطانية للطب النفسي (British Journal of Psychiatry)، تم اختيار طلبة أنهوا دراستهم في المدرسة بين عامي 1988 و1997، وقامت بربط الإنجاز المدرسي لهم في عمر 15 و16 عاماً بحالاتهم النفسية التي هم عليها، فكان الطلّاب الأكثر ذكاءً هم الأكثر تعرضاً لحالات اضطراب ثنائي القطب.
هذا بالإضافة للعديد من الدراسات التي أجريت في هذا المجال. وافترض العلماء أن الضغط وكثرة التفكير يشكلان مجهوداً ذهنياً كبيراً قد يدفع الناس للإصابة بالتقلبات المزاجية والأمراض النفسية.
زاوية مختلفة
هناك من نظر للأمر من زاوية مختلفة تماماً، وافترض أن الأمراض العصبية والنفسية هي التي قد تدفع الناس إلى الإبداع والابتكار، أي أنهم كانوا يبحثون عن الإبداع عند أولئك الذين يعانون من أمراض عقلية!
وتشير الأبحاث التي أجراها جيمس فالون، عالم الأعصاب في جامعة كاليفورنيا أن الذين يعانون من الاضطراب ثنائي القطب يميلون إلى أن يكونوا مبدعين عندما يخرجون من الاكتئاب العميق، فعندما يتحسن مزاج المريض ينتقل النشاط في الدماغ من منطقة لأخرى، حيث ينقطع النشاط في الجزء السفلي من منطقة الدماغ، ويزيد في جزء أعلى من هذه المنطقة، ومن المثير للدهشة أن نفس الأمر يحدث للأشخاص المبدعين.
والشخص المصاب بثنائي القطب تشغله أفكار كثيرة جداً، وهو دائماً في حالة هوس شديد، الأمر الذي يزيد من احتمال خروجه بفكرة واحدة إبداعية على الأقل، ولذلك نجد أن المصابين بالاضطراب ثنائي القطب مكانهم مضمون في المهن الإبداعية.
هناك مقولة للشاعر البريطاني فيليب إدوارد توماس يقول فيها: "أتساءل، بالنسبة لشخص مثلي جاءته أعظم لحظات الإلهام في أقسى درجات الاكتئاب، هل لدواء يزيل الاكتئاب أن يزيل الإلهام؟!".
لا علاقة علمية بين الإبداع والأمراض النفسية
يرى بعض العلماء أن الأمر مجرد صدفة، وأنه ليست هناك قاعدة ثابتة للأمر، ومنهم أستاذ علم النفس ألبرت روثنبرغ في جامعة هارفارد، حيث ذكر في كتابه الذي أصدر في عام 2014 بعنوان "رحلة من عجب: التحقيق في الإبداع العلمي" أنه قابل 45 من العلماء الحائزين جائزة نوبل، ولم يجد أي ارتباط بين الإبداع والاضطرابات النفسية.
وقد أوضح أن العمل في الفن أو الأدب، لا يثبت أن الشخص مبدع، ولكن العديد من الناس الذين يعانون من مرض عقلي يحاولون شغل الوظائف التي لها علاقة بالفن والأدب، ليس لكونهم بارعين فيها، ولكن بسبب انجذابهم لمثل هذه الوظائف حيث تستخدم جميع المستشفيات العقلية العلاج بالفن، وعندما يخرج المرضى من هذه المصحات يجدون متعتهم في ممارسة الوظائف الفنية، الأمر الذي قد يشكك في صحة بعض الأساسيات التي بُنيت عليها بعض الدراسات!