يعد باولو كويلو، الكاتب البرازيلي، من أشهر الأدباء في العالم، وأكثرهم انتشاراً وتكريماً؛ لكنه قبل أن يصبح كذلك فشل في دراسة الهندسة، فنصحته أمه بدراسة القانون؛ لكن كان حلمه الأثير أن يصبح أديباً.
تتميز أعماله بالطابع الروحاني والفلسفي، وهي انعكاس للرحلة الفكرية والنفسية الثرية للكاتب، ومحاولته للبحث عن معنى لحياته، بعد أن قضى جانباً كبيراً من شبابه متطبعاً بأفكار الماركسية، وانخراطه مع جماعات الهيبيز والسحر الأسود؛ حتى انتهى به الحال في المصحات النفسية ثلاث مرات، كذلك أودى به نشاطه السياسي لاعتقاله.
تتطبع كتاباته بروحانية بارزة، تحمل في جوهرها نصيحة دائمة لقرائه، فيقول: "اجعل حياتك سعياً لتحقيق أسطورتك الخاصة، قدرك الخاص، ومهما واجهت من صعاب لا تجعل شيئاً يقف في طريقك.. لا الإحساس بكرامة ولا الشعور بيأس أو خيبة أمل.. لا تتردد ولا تستسلم".
يتناول كتاب "مكتوب" مجموعة من الحكايات والنصوص المركزة، تعد امتداداً لفلسفة الكاتب، يأخذنا من خلالها كوليو في جولة ثقافية وحضارية. للوهلة الأولى، نجد كلمات الكاتب تنساب في بساطة وإيجاز، وهي تعتمد في كثير منها على الرمز، وتحمل للقارئ تعاليم وإرشادات تفيض بالحكمة.
تدور القصص في صيغة مواقف تجمع راهباً أو كاهناً أو حكيماً مع مريده وتلميذه، يلعب كل منهم صورة المعلم والواعظ، وتقدم في طياتها نصائح للحياة؛ فتخبرنا إحدى القصص بأن تحقيق الاستنارة الروحية رهين الكد والتعب، وأن رحلة البحث عنها يجب أن تنبع من الذات، وعلى الإنسان في طريقه لمعرفة الله أن يتجرد من ذاته، ولا يلتفت لصعوبات الوصول، والامتثال لتعاليم الله، التي قد تبدو في ظاهرها تكاليف شاقة؛ لكن مراد الله يحمل للعبد مصلحة، وإن لم تتكشف حكمته حينها.
نجد كويلو يجوب بين رمال الصحراء والغابات والكهوف والوديان، يستنبط الحكمة من الطبيعة والأرض والصخور ونجوم السماء منبع حكمة القدماء، وأحياناً ينقلنا الكاتب في حكايات خيالية تمتزج معها الحكمة، مستغلاً قالب القصة القصيرة جداً، التي تتميز بالإيجاز والرمزية والومضة أو الصدمة التي يتلقاها القارئ في نهاية بعض القصص؛ فتحمل معها مغزى عميقاً في كلمات معدودة.
يصالحنا كوليو مع أنفسنا فلا بأس أن نشعر بالهشاشة والضعف، ونستسلم للبكاء، ولا غضاضة في أن ننكسر، ما دمنا نلملم ذاتنا من جديد، وليس علينا أن نلهث وراء أحلامنا دون توقف؛ وإنما لابد من التوقف للاستمتاع بالرحلة، والتلذذ بلحظات السعادة، وحتى بالتفاهات والحماقات، التي قد تبدو مضيعة للوقت؛ لكنها في الحقيقة تحفزنا وتشجعنا وتشحن ذاتنا، فهي زادنا في الطريق.
وعلينا ألا نجزع عندما تروادنا الخواطر والرغبات غير المحبذة، فنجد المعلم يقول لتلميذه إن "الرغبات السلبية لا تؤذيك إذا أنت لم تسمح لها بإغوائك". يحاول كويلو أيضاً رأب هذا الصدع تجاه الآخر، والإحساس الذي ينتاب البعض بالتوجس والحذر من الآخرين.
وينصحنا بألا ننساق وراء المادة، وننسى احتياجاتنا الروحية والنفسية؛ فمثلما يحتاج الإنسان للمأوى والمأكل والمشرب يحتاج للحب، وكل ما يصل إليه في الحياة لا قيمة له، ما لم يكن بجانبه من يشاركه متعة هذه الأشياء. لكنه كذلك لا يلبث أن يستدرك في موضع آخر بأن الحب ليس ذريعة للتخلي عن الأحلام وانطفاء الشغف، بدعوى المسئوليات والروتين. على العكس، يمكن للإنسان أن يتعلم شيئاً جديداً، ويبقي شغفه مشتعلاً، مهما بلغ من العمر والانشغال.
ثم ينتقل إلى قدرات الإنسان والقوة الكامنة في داخله، وهي فكرة سائدة في غالب أعمال كوليو، فيقول إن كل إنسان عبارة عن عمل فني يرزح تحت أسمال الخوف والتذبذب والذنب والشك في الذات، وما إن ينجح الإنسان في التغلب عليها؛ حتى تنكشف ذاته الحقيقية، ويحمل رسالته للعالم، وهي مثلما يقول باولو السبيل الوحيد لعيش حياة شريفة. فلكل منا نعم ينصحنا الكاتب بأن نستمتع بها وألا نهدرها، وأن نعتني بمواهبنا ومهاراتنا وتحديد الهدف، قبل السير في حذوه؛ حتى لا نتشتت بين الطرق والدروب.
ولأن في أيدينا كتاباً يفيض بالتعاليم الروحانية، فتجده يتحدث عن المفارقات في علاقة الإنسان بربه؛ فلكل شخص طريقه الخاص إلى الله، فـ"بعضهم مؤمن، وبعضهم منكر، وبعضهم في شك!". مثلما يختلف الإله عند البعض عن الآخر؛ فهناك الإله الذي يغفر، وهناك الذي يتوعد، والذي يمنح العطايا لعباده، والذي يثقل على عبيده.
وبينما ينشغل أحدهم بالأسباب عن التضرع لله، يعكف بعضهم الآخر في محراب الله سائلاً أمانيه، دون أن يتبع الأسباب، متناسياً أن الله جعلها جزء من تحقيق إرادته في الأرض، وما على العبد إلا أن يترك رغبته وحلمه بين يدي الله؛ حتى تعود له متحققة بعد سعيه. بينما نرى أن من يظهرون الفضيلة قد لا ينالون عطايا الله، فمنهم من يتشح بالغرور، فيرى نفسه أعلى وأفضل؛ بينما قد يتقرب الله من عباد يظهر عليهم الذنب وقلة الورع، لكن سريرتهم نقية، لا ينكرون للآخرين أفضالهم.
يحذرنا في قصصه من لهث الإنسان وراء عطايا الحياة، حتى يفقد روحه في الطريق، ويعتاد الأشياء فتفقد معناها، لكنها تتحكم فيه. وكيف يدجنه المجتمع بقيوده؛ حتى يعتاد هذه القيود، حتى إن وهنت، لكنه يفقد حس المقاومة شيئاً فشيئاً متناسياً أن "عملاً شجاعاً بسيطاً هو كل المطلوب لكي نحقق حريتنا".
لا يعنى كويلو كثيراً برسم تفاصيل دقيقة لشخصياته في رواياته بشكل عام، وبالتأكيد في كتابنا هذا، كون قصصه لا تتعدى إحداها بضعة سطور. فلن تجده يشير لأسماء الأبطال أو سماتهم، إلا نادراً وبشكل وجيز. فهو هنا يخاطب الإنسان فينا، أياً كانت صفاته وهواجسه وأحلامه؛ فجميعنا يمتلك النزعات والغرائز الأساسية في الحياة، ونبحث عن الأشياء ذاتها، وإن اختلفت دروبنا، ومقدار ما جرى ترويضه من رغباتنا. لذا هو يخاطب الإنسان والطفل بداخل كل منا، فيمكن لأي منا أن يضع نفسه بطلاً لقصصه.