الإيطالي “نار في البحر”.. مأساة قوارب اللاجئين و”الدب الذهبي”

قد تحول القساوة في الفيلم دون متعة العديد من مشاهديه، لكنّها ليست قسوة فيلم روائي، ليست متخيَّلة، أي لا نخرج من الصالة مطمئنّين إلى أن ما شاهدناه خيال، إنّما حصل ويحصل الآن، هي قسوة آتية من صلب واقعنا، واقع أوروبا كما هو واقع الهاربين من الموت في بلادهم.

عربي بوست
تم النشر: 2016/11/22 الساعة 04:21 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/11/22 الساعة 04:21 بتوقيت غرينتش

صحيح أنّ الفيلمين الحائزين على السعفة الذهبية في الدورتين الأخيرتين من مهرجان كان الفرنسي كانا اجتماعيين تماماً، الأخير انكليزي وما قبله فرنسي، ويحكيان عن هموم أوروبية في العموم: اللاجئين والبطالة. لكنّهما يبقيان في النهاية فيلمين روائيين، وهي الأفلام الأكثر اقتراناً بمفردة "سينما"، إذ لا يخطر لأحدنا فيلماً وثائقياً في الحديث عن السينما وكبار السينمائيين، إنّما الروائي وحسب، حتى مفردة "فيلم" غير حاضرة في اللغات الغربية للحديث عن الوثائقية منها، يُستعاض عنها بمفردة "وثائقي". هذا رغم أنّ السينما بدأت، تاريخياً كوثائقيات وليس كحكايا.

لكن في مهرجان برلين الأخير، وقد يكون ذلك لأسباب متعلقة للسياسة الألمانية الأفضل عما هي في باقي الدول الأوروبية بما يخص مسألة اللاجئين، في مهرجان برلين الأخير نال وثائقيٌّ الجائزة الأهم، الدب الذهبي، وهذا الوثائقي يتناول تحديداً، وبشكل واقعي جداً، مآسي قوارب الهجرة التي تصل إلى السواحل الأوروبية، وأقرب هذه السواحل هي الإيطالية.

فنحّى الفيلم الإيطالي "Fuocoammare" أو بترجمته الإنكليزية: نار في البحر باقي الأفلام الروائية التي اعتمدت على الجماليات السينماتوغرافية ونالها، لا بجمالياته فقد كانت عادية جداً، بل بقساوة الحقيقة التي يصوّرها، وبراهنيّته، وارتباطه بهموم أوروبية تفوق خطورة مسائل كاللاجئين في بلادها واندماجهم مع مجتمعها، والبطالة والفقر. فالحديث هنا عن أناس يخاطرون بأرواحهم ألف مرّة قبل أن يصلو إلى أوروبا، بما فيها من مشاكل اندماج وبطالة وفقر، فهذه الأخيرة تبقى نوعاً من الخلاص لهؤلاء بعدما عبروا البحر الذي كاد غالباً أن يبتلعهم.

الفيلم عملُ مخرجه بشكل كبير، فإضافة إلى الإخراج كان الإيطالي جيانفرانكو روزي منتجه وكاتبه ومدير التصوير فيه، يُذكر أنّ روزي نال في 2013 جائزة الأسد الذهبي في مهرجان فينيسيا الدولي عن فيلمه الوثائقي "Sacro GRA" (جي آر أي المقدسة)، وكان في حينها الوثائقي الأول الذي ينال الجائزة، وهو بذلك المخرج الوثائقي الوحيد الذي نال جوائز أولى في المهرجانات الأوروبية كبرلين وفينيسيا وكان وغيرها.
تمّ تصوير الفيلم على جزيرة لامبادوزا التابعة لجزيرة صقلية الإيطالية والقريبة من شمال إفريقيا، تونس تحديداً، حي تُعدّ إحدى الأراضي الأوروبية الأقرب للمهاجرين واللاجئين، وصوّر المخرج بشكل موازٍ حياتيْن مرتبطتين على هذه الجزيرة التي يعمل معظم أهلها في الصيد، الحياة الأولى هي لطفل ابن ١٢ عاماً، هو ابن أحد البحارين، يمضي وقته باللعب بين الشجر وفي البساتين، يصنع مقلاعاً من أغصان شجرة ويصنع مطاطه بقصّه من قفازات، أقصى همومه في الفيلم هي ضعف بصره، أنّه حين يضطر لوضع نظارت تغطّي إحدى عدساتها عينه اليسرى، أنّه بوضعها لا يستطيع أن يصوّب جيّداً بمقلاعه، فلا يتصيّد العصافير. وهذه هموم طفل عادي يعيش طفولته كما يحب.
يضع المخرج ذلك بموازاة حياة أخرى تصل إلى الجزيرة مرهقة ومريضة، إن وصلت أساساً، تصل بعد عبور بلاد في إفريقيا قبل البحار. بتوازي الحياتين استطاع المخرج أن يبرز الجانب الإنساني، الجانب المأساوي في حياة الهاربين من الحروب والاقتتالات في بلادهم، من بينهم هاربين من سوريا كما من نيجيريا ومالي وغيرها.

يتوزّع طول الفيلم على الحياتين، الحالتين، وإن توافقتا في الزمان والمكان، إنّما لا يربطهما شيء آخر، لا الطفل ولا أهله يعرفون بهؤلاء الهاربين من الموت، ولا الهاربون يعرفون شيئاً عن الحياة العادية التي يعيشها أهالي الجزيرة، الحياة المحلية جداً، الوادعة الآمنة التي تتصل فيها جدّة الطفل إلى برنامج إذاعي ترفيهي لتوصل رسالة إلى ابنها البحّار بأن يعود إلى البيت لأنّ الطقس لا يشجّع على الإبحار. هذا القلق العادي يضعه المخرج روزي مقابل القلق الاخر، أقصى ما يمكن أن يصله القلق، الاستثنائي، القلق من الموت، والموت لم يكن في حينها كلمة مجرّدة، بل كان مجسّداً في جثث للاجئين والمهاجرين مكوّمة فوق بعضها، كما في المجزرة، في الطابق السفلي من السفينة الخشبية، هناك يموت الناس اختناقاً. كأنّ الحياتين تحدثان في عالمين مخلتفين، أو على الأقل في مكانين مختلفين متباعدين، أو زمانين مختلفين متباعدين.

قد تحول القساوة في الفيلم دون متعة العديد من مشاهديه، لكنّها ليست قسوة فيلم روائي، ليست متخيَّلة، أي لا نخرج من الصالة مطمئنّين إلى أن ما شاهدناه خيال، إنّما حصل ويحصل الآن، هي قسوة آتية من صلب واقعنا، واقع أوروبا كما هو واقع الهاربين من الموت في بلادهم. لكنّ نيله الجائزة الأولى لأحد أهم المهرجانات السينمائية في العالم يشير إلى الدور الأخلاقي والإنساني الذي يجب أن لا تتركه السينما، يشير إلى احترام المهرجانات لهذا الدور. قد لا يقتنع الكثير من مشاهدي الفيلم بنيله جائزة كهذه إنّما أولاً: نالها. وثانياً: نال المهرجانُ الألماني بذلك احترام العديد ممن يرون بأنّ للسينما جانباً مسؤولاً يتعدى الجماليات والحكايات والحوارات لا يحب أن يتم غبنه.

هذه التدوينة منشورة على موقع القدس العربي.. للإطلاع على النسخة الأصلية إضغط هنا

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد