في أحد المقاهي الجميلة التي أصبحت تزخر بها مدينة سيدي بنور، وكعادتنا في الدردشة وتقليب المواضيع يمنة ويسرة.. طرح أحد الأصدقاء سؤالاً بسيطاً وعميقاً في الآن نفسه: لماذا نقرأ؟
أدلى كل بدلوه في الموضوع.. وافترقنا، لكن السؤال بقي يلح عليَّ، لم تقنعه مقالاتنا.
في البدء كانت الكلمة، والكلمة الأولى اقرأ.
اقرأ.. فعل بما يقتضي الفعل من حركة وانتقال وانطلاق..فعل بما يقتضي الفعل من إحساس متغير على الدوام.
نقرأ لننتقل من مستوى الطبيعة إلى مستوى الثقافة، الطبيعة تتحكم فيها الغريزة، والثقافة يحكمها التسامح وقبول الآخر -وهو اعتراف ضمني بنفسك وحقك في أن تكون مختلفاً- أن تقرأ معناه أنك قد حسمت الاختيار بين الدائرة والمستقيم بلغة الرياضيات، الدائرة حلقة مفرغة، المستقيم انتقال مطرد نحو المعرفة والنور.
القراءة سفر جميل في الزمان والمكان، عبق التاريخ وسحر الأمكنة، القراءة تكسبك أصدقاء حقيقيين ومعلمين بارعين مروا من نفس الدروب التي تستعد أنت -الآن- لعبورها.
القراءة شفاء من الجهل، بلسم للجراح، مشروع ناجح للقضاء على الوحدة والعزلة، بالقراءة وحدها تجالس الأحياء والأموات، تفاعل، تهاجم، تسخر، تحاول الفهم، تحيا أكثر من حياة.
التاريخ سفر، الفلسفة سؤال، الجغرافيا تموقع، الدين ملح الحياة، الأدب خيال، السينما مدرسة، والعلوم والفنون الأخرى تلخصها كلمة: "إبداع".
ثمرة القراءة الفهم، وبالفهم تستطيع أن تكتشف مجاهيل نفسك، تعرف وتعترف بالآخر، تستطيع استيعاب حياتك وواقعك مستنيراً بالحكمة القائلة: اقبل ما لا تستطيع تغييره، وغير ما لا تستطيع تقبله، البداية من نفسك، وكلمة السر والمفتاح: اقرأ.
القراءة وحدها كفيلة بإضاءة مجاهيل النفس ومحاربة الاكتئاب "داء العصر الكريه" الذي يختار بعناية من له فكرة واحدة؛ ليجعل منها فكرة قاتلة، نخر الذات يوماً إثر يوم.
القراءة رافعة أساس للمجتمعات، فالمجتمعات التي تنتشر فيها الأمية والجهل والجهالة تؤدي الفاتورة مضاعفة، ومآلها ما نلحظه اليوم عياناً.. أقله هوانها على نفسها وعلى غيرها؛ بل حتى أبناؤها لا يشرفهم الانتماء لها.
القراءة تفكير مستمر في الحال والمآل، انخراط واعٍ لتغيير النفس نحو الأفضل دائماً، مشاركة في البناء الاجتماعي، كل من موقعه، بعيداً عن النقد الرخيص، فالجالس فوق الصخرة -كما يقال- يجيد السباحة.
بقيت الإشارة إلى مسألة بسيطة هي أن القراءة مرض معدٍ، رجاء لا تستعملوا مضادات حيوية إذا هاجمتكم، ولا تتورعوا في إصابة مَن تحبون بهذه العدوى، وخصوصاً أطفالكم.
أما عن الجواب عن سؤال المقال، فلي اليقين أن أجوبتكم ستكون أحسن مما ذهبت إليه، يبقى الجواب الحقيقي: هل نقرأ؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.