ما السبب الذي يجعل الإنسان يقع في التصريح بالمتناقضات وتبني الأطروحات المرذولة في منهجه السابق؟
فى الفكر الفلسفي لا يمكن لشيء أن يجمع الصفة ونقيضها.
ويعرف الجرجاني التناقض بأنه اختلاف القضيتين بالإيجاب والسلب، بحيث يقتضي لذاته صدق إحديهما وكذب الأخرى، كقولنا: زيد إنسان، زيد ليس بإنسان.
لكن يجب معرفة أن التناقض طبيعة إنسانية موجودة بأشكال مختلفة وطرق عديدة، تناقض الذات في الأقوال المتغايرة والجمع بين النظائر والأضداد وجه لعدة أشكال من التناقض، وقد رأينا أن نخصه بالحديث في هذا الباب.
لقد أصبحنا حالياً نعيش في عصر القيل والقال مع توفر هذا الكم الهائل من وسائل التواصل، وكثرة المنافد الإعلامية التي تتيح للأشخاص وضع بصمتهم في مجال تخصصهم، وإنشاء قاعدة متابعين يميزون خط السير ومنهج الشخص المتابع، وكذا الآراء التي يصدع بها؛ لهذا فإن أي جمع بين الصفة ونقيضها أو الأضداد يصبح مكشوفاً للمتابعين الأوائل أو للخصوم الذين يتحينون صيد الشبهات.
وجود إنسان مشهور، سليم العقل، على قدر من الذكاء، دائم التناقض، هو وجود بين مطرقة ألسنة العيان وسندان الأحكام والنعوث الذميمة لهذا الإنسان؛ حيث يسحب عن قدميه بساط المصداقية وينظر إليه كمنافق أفاك ينشر الأكاذيب، وهذا حكم جائر إن لم نأخد في الاعتبار عدة عوامل محددة لإطلاق مثل هذه الأحكام.
يمكن أيضاً الكيل بنفس المكيال إن اتبعنا منهج الغوغاء هذا في تبني الأحكام المسبقة ضد الشخص غير المتناقض ذي المنهج الذاتي الثابت، باعتباره شخصاً جامد الفكر متحجر الرأس، لا يهمه سوى تكرير نفسه وجعل تصريحاته قيداً يغل عنقه، وذلك خوفاً من الظهور بصفة المتناقض، فهو غير معني بالوصول إلى الحقائق، ولا بالاطلاع على مستجدات الساحة، ولو كان كذلك فهو لا يخرج بعكس أقواله خوفاً على السمعة.
لكن ليست هكذا تؤكل الكتف، وكل حكم اعتباطي على المتناقض وغير المتناقض يجر الظلم والتعسف، إن لم نأخد بعين الاعتبار أهم أدوات التحكيم.. عامل الزمن!
الحكم الأجل والأوفى حقاً على المتناقض يستوجب النظر إلى عامل أساسي مهم، وهو عامل الزمن، الذي يغير من أفكار الناس وقناعاتهم، فأنت العام الماضي لست أنت هذا العام، ولا أنت الأعوام القادمة.. والاحتكام لهذا العامل لتبين المنافق من الصادق، هو احتكام لمنطق أن المتناقض سلك طريق البحث والاستقصاء، فأقصى رأيه لصالح تبني رأي مضاد، وذلك في ظل وجود مدة لا بأس بها بين التصريح ونقيضه.
النفس البشرية معقدة ومكتظة بالتناقضات، والشخص المميز هو الذي يحرص على تبيان الحق ولو ناقض ذاته وقناعته السابقة، بغض النظر عن إن كان الناس يعتبرونه متناقض الكلام يكسر القاعدة بالجمع بين النقيضين!
هذا الإنسان في نظري ليس متناقض القول، بل هو إنسان شجاع متصالح مع ذاته، مستعد للتنازل عن هرائه القديم مقابل تبني حقيقة جديدة، ما دام التنازل والتبني يحترمان العامل الزمني في التتبع والعناية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.