مُنذ أن تطأ قدمنا أرض المدرسة نتعلم النشيد الوطني، بل نحفظه حِفظاً، ونَظل على مدى خمسة عشر عاماً نُردده كل صباح، ننطق حروف النشيد بانسيابية مُبهرة، تُميز آذاننا اللحن أينما تسمعه، يردد اللسان الكلمات من دون تفكير، وتسترجع الذاكرة الجمل من دون عناء، ولكن السؤال هنا هل نطقت قلوبنا يوماً حروف هذا النشيد؟
نُدرس التاريخ منذ الصف الرابع الابتدائي، نتعلم حدود مصر، عدد المحافظات وتاريخ الأرض، وسيمفونية من الاحتلالات المُتتابعة والثورات التي وُلدت من رحم كُل احتلال، نُطلق على الدخول العُثماني "الفتح العثماني لمِصر" ثم ما نلبث أن نطلق على دخول الإنجليز "الاحتلال البريطاني"، نَدرُس تاريخ الحروب وأعداد الشُهداء، نحفظ عدداً لا مُتناهي من الأرقام والتواريخ، يصيح المُعلم بعلو صوته، وقد ضحى الآلاف بأرواحهم حتى تنعم أنت اليوم بأرض مصر.
ثم ننضُج أكثر، فنتعلم التاريخ العربي، نرى في الخريطة العربية دولة إسرائيل تلتهم فلسطين، فتظهر الأراضي الفلسطينية كانتونات مُتفرقة وكأنها جُزر قد غرقت في قلب الاستيطان، ثم يُعقَّب عليها بأرضنا الفلسطينية، فلسطين القضية، فلسطين العقيدة، ننُشد إلى جانب النشيد الوطني المصري، نشيد جديد، نشيد عربي اللغة والهوية "بلاد العُربِ أوطاني"، نرفع شعارات الأرض عربية، الحدود تراب والنضال واحد، ننتفض استجابة لنداء الانتفاضة الفلسطينية، نثور ونتابع النشرة الإخبارية صباح مساء، لعل فيها ما يطمئن على أهلنا في الأرض العربية المجاورة..
ثم ننضُج أكثر فأكثر فندرُس دخول القوات السورية أرض لبنان "الاحتلال السوري للبنان"، حرب الخليج الأولى ثم حرب الخليج الثانية، نقرأ السطور في ذهول
"اجتياح القوات العراقية أرض الكويت.. الصف العربي ينقسم، صدام يقصف إسرائيل"، صراعات على الحدود بين الدول العربية المتجاورة، نُحضر أوراقاً بعناوين مُشتتة "الصراعات العربية.. العربية"، "تباعات الصراع الحدودى بين الجزائر والمغرب" ثم "قضايا اللاجئين ما بين القبول المجتمعي والرفض السياسي".
هذا التناقض الواضح يفزعُنا، يبُث مشاعر متضاربة ما بين الألم، وعدم التصديق واللاإدراك، يطرح تساؤلات محورية حول مفهوم الوطن وأولويات الهُوية، هل الوطن مصر أم مصر وفلسطين أم الأمة العربية، وإن كانت الأمة عربية، فهل يجوز أن يقتل العربيُ عربياً مثله من أجل أرض، أوليست الحدود تراباً.. أوليس النضال واحداً؟!
يوماً بعد يوم تتفكك البنية العربية، تعلو الأصوات بالقوميات، القومية العربية تتبدد، الأجيال المعاصرة لم تعرف فلسطين كفلسطين، عاصرتها فلسطين وإسرائيل، تغذينا بشعارات بثت في نفوسنا التناقض والحيرة ما بين الهُوية العربية أم الهوية المصرية، أما الأجيال القادمة فمثل هذه القضايا لم تعد تعنيها، لم ينشدوا بلاد العُرب أوطاني، ولم يعرفوا معنى الأرض تراب..
منذ عدة أيام كانت مذابح حلب تغزو المشهد.. تكشف لنا إلى أي مدى قد بلغ العجز والعُهر بأوطاننا.. أنهار سوريا أضحت دماءً، الأشلاء والجوعى وبقايا الأطفال وأشباه النساء وقهر الرجال قد فاضت بها حلب، سوريا تنتحب.. وحدها تنتحب، تناست الدول حق العروبة وتناست شعوبها النشيد التي طالما حفظته..
ومنذ عدة أسابيع ثارت قضية صنافير وتيران، جزيرتين مصريتي الأصل تُقر السُلطات المصرية أنهما أراضٍ سعودية، الغضب يتأجج، يشعر الشعب بالاستغفال والدونية، كيف لمصر أن تُضحي بجزء من أراضيها لدولة آخرى، دولة عربية آخرى..
ما يحدث في مصر على الساحة السياسية هزلي بلا شك، ولكن الأمر الذي يزرع بذور الشك بقلبي زرعاً هو الرفض العربي أن تأخذ أرض عربية جزءاً من أرض عربية أخرى، وأنا هنا لا أتحدث عن مبادئ العلوم السياسية في حفظ الحدود وتعريف الاحتلال وشرعية التنازل عن جزء من أراضي الدول، وإنما عن الفئة التي طالما أرادت انتشال الحدود ونزع الهُوية القومية من أجل الانصهار في البوتقة العربية، حالة الرفض تلك وسلسلة الاجتياحات العربية للدول العربية "الشقيقة" الأخرى، والصراعات العربية-العربية اللانهائية، وأنهار الدماء في حلب والجوعي في مضايا، الحصار على غزة، الاستيطان في الضفة، لا تعني إلا شيئاً واحداً، هو أن الحدود لم تعُد تراباً والفكرُ مغتصب والشعارات كاذبة، الأرض ليست واحدة ولا النضال واحد، الهُوية العربية اندثرت وأفرزت هُويات صغيرة مُشتته، لا تعرف إلى أين تنتمي وعن ماذا تدافع وفي أي سبيل تُجاهد، بلاد العُرب لم تُعد أوطاناً تحتوي بعضها بعضاً، بل أصبحت أوطاناً تتنازع من أجل أرض، بل تقتل وتشتت وتغتصب حقوق بعضها من أجل سلطة ومال وتراب.. أصبحت الحدود حصون بل قلاع منيعة تحميها بأسلاك شائكة تقطع شريان لاجئين عرب قد جاءوا آملين النجاة حالمين بالأمن والسلام، فوجدوا الحدود أسواراً.. وبلادنا تنتظرهم لتعزف على ما تبقى من أرواحهم أوتار الظلم والقهر والاستبداد، واستُبدل النشيد العربي ليصبح بلاد العُهرِ أوطاني.. بلاد القَهرِ أوطاني..
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.