أبناء الشهداء والمعتقلين.. وأسئلة تحتاج إجابات

ولا يزال النزيف مستمراً، ولا تزال الأمهات في حيرة، كيف تخبر ابنها -الذي كان رضيعاً أو غير واعٍ عندما استشهد أبوه- وهو الآن يكبر ويسأل أين أبي، كيف تخبره عما حدث لأبيه؟ ومتى تخبره؟ وتلك الأم التي اعتُقل زوجها، كيف تخبر أبناءها الصغار بهذا؟ وكيف تساعدهم على التفرقة بين أبيهم -سجين الرأي- وبين رفاقه في السجن من تجار المخدرات أو القتلة أوالمجرمين؟

عربي بوست
تم النشر: 2016/05/18 الساعة 11:33 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/05/18 الساعة 11:33 بتوقيت غرينتش

نتألم جميعاً كلما شاهدنا صوراً أو سمعنا أخباراً عن الشهداء والمعتقلين الذين سقطوا ضحية للاستبداد السياسي في أوطاننا المنكوبة، ولكن يظل الألم الأكبر هو ألم أبنائهم وبناتهم الذين تكالبت عليهم أوجاع الفراق والقهر والغضب والعجز وفقدان الأمان!

ولا يزال النزيف مستمراً، ولا تزال الأمهات في حيرة، كيف تخبر ابنها -الذي كان رضيعاً أو غير واعٍ عندما استشهد أبوه- وهو الآن يكبر ويسأل أين أبي، كيف تخبره عما حدث لأبيه؟ ومتى تخبره؟ وتلك الأم التي اعتُقل زوجها، كيف تخبر أبناءها الصغار بهذا؟ وكيف تساعدهم على التفرقة بين أبيهم -سجين الرأي- وبين رفاقه في السجن من تجار المخدرات أو القتلة أوالمجرمين؟

عندما يتعلق الأمر بقضايا كبرى مثل "الموت"، "الشهادة"، "الظلم"، "الحرية"، "الإصلاح".. لا بد أن تصل (المعلومة) بأسلوب "متدرج" و"متكامل" و"إيجابي". وكلمة (معلومة) -في الحقيقة- كلمة غير دقيقة، فالمسألة ليست مجرد معلومات يتم ضخها في عقل الطفل، وإنما هي معرفة مختلطة بمشاعر ومهارات وتأثير كامل على السلوك والشخصية في الحاضر والمستقبل.

وأقصد بالتدرج أن الحقائق لا يتم عرضها دفعة واحدة هكذا: (أبوك مات لأنه كان يقول الحق أمام سلطان جائر!)، وإنما يتم تفتيتها وتدريجها لسببين: أولاً لتخفيف الألم على الطفل، وثانياً: حتى تتحقق القيمة التربوية من تناول الحدث، بحيث كلما كبر الطفل في السن، ازداد العمق في التناول عبر الشهور والسنين. ففي البداية تأتي المصارحة بأن الأب قد لقي ربه، وتأتي معها الحكايات الجميلة عن الجنة والأشجار والأنهار، ثم بعد فترة يبدأ الحكي عن الشهادة، وكيف وقف الأب أمام الظلم فنال شرف الشهادة، مع الاستفاضة في الحديث عن أجر الشهيد ومنزلته، ثم تأتي بعد ذلك تفاصيل عن ملابسات الحادثة، أين كانت؟ وماذا حدث؟.. ثم المزيد من العمق عن معنى الظلم وعن شرف الوقوف أمامه باليد أواللسان أوالقلب، وأن هذا جزء من مهمتنا في الأرض، وأن الله أمرنا بتعميرها وإصلاحها ما استطعنا. وهنا تأتي القصص عن الصحابة الذين استشهدوا، وعن سعادتهم بالشهادة وترحيبهم بها، وعن حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- عنهم، وكذلك جميع الأنبياء عن شهدائهم.

وكذلك بالنسبة للأب المعتقل، يأتي الحديث عن معنى "السجن"، وأنه مكان للمجرمين، ولكن أحياناً يتم الزجّ بالمظلومين في السجن، كما حدث مع يوسف عليه السلام؛ لأنه لم يوافق على طلبات زوجة الملك، وهذا هو ما حدث لأبيك، أنه كان له رأي مختلف عن الحاكم. ثم يأتي حديث أكثر عمقاً عن الحرية والعدل والظلم، وأن الله تعالى يبارك للمظلوم، ويحبه، ويرفع عنه ابتلاءات أخرى بسبب تحمله للظلم.

وفي كل الأحوال، يجب أن يأخذ الابن الفرصة كاملةَ ليتكلم ويحكي ويطرح الأسئلة ويعبر عن رأيه ومشاعره بحرية تامة، حتى لو كان بعضها صادماً، حتى لو كان فيه اعتراض على أقدار الله، دعوه يتكلم ويعبر، دون كبت، لسببين؛ أولاً: لنستكشف ما يدور بداخله فنستطيع إصلاحه ما استطعنا، وثانياً: من أجل "الفضفضة" و"التنفيس" فهما جزء كبير من الدعم النفسي له. ولنعلم أن بداخله مشاعر تحتاج للتعاطف وليس الرد بالمنطق أو أن نقول له: حرام، لا تعترض وإلا غضب الله منك! كل هذا مرفوض، وإنما يأتي التعاطف أولاً، ثم المنطق ثانياً.

والتعاطف ليس معناه الشفقة والمسكنة، وليس معناه الإقرار بما يقوله الطفل، وإنما معناه: "أنا أشعر بك، ومتفهمة ما تقوله، ومقدرة مشاعرك ومعاناتك، وربما أشعر أحياناً بما تشعر به، ولكن.." ثم يأتي المنطق والعقل والدين.

وأقصد بكلمة "متكامل" و"إيجابي" أن الحديث -كما ذكرت- ليس مجرد معلومات يتم سردها، وإنما يختلط بمشاعر ومهارات في التفكير والتحليل تؤثر على سلوك الطفل وشخصيته مدى الحياة. نعم هي مهمة صعبة أن تكون الأم منكوبة ومقهورة، ومع ذلك تحرص أن يكون حديثها مع ابنها إيجابياً! نعم هي مهمة صعبة ولكن هذه مسؤوليتها. هناك مشاعر وأفكار لا بد أن تتخلل حديثها، وهناك مشاعر وأفكار أخرى يجب أن تحذر منها، من ذلك على سبيل المثال:
يجب أن تحذر من أن تكرس في ابنها شخصية "الضحية" العاجز المقهور، بل على العكس، عليها أن تفتح له آفاق القدرة على النجاح والإصلاح ما استطاع، ربما من خلال طريق آخر، ربما في بلد آخر، ربما في مساحة أخرى، ولكن يظل القلب مستبشراً متوكلاً مجتهداً.

يجب أن تحذر من أن تغرس في قلب ابنها "الغل" و"الكراهية"، فنحن نكره الظلم والظالمين، ولكننا لا نكره أوطاننا ولا نكره الناس.

يجب أن تحذر من أن ينظر الابن لنفسه على أنه هو البطل ابن البطل، وهو ابن الشهيد الذي تباركه السماء! فلا تكون بطولة الأب سبباً في التراخي والتكاسل اتكاءً على أمجاده، ولا تكون أيضاً سبباً في التوتر والضغط للوصول إلى نموذج يليق به.

أن يفهم الابن -بالتدريج- أن الاستشهاد أو الاعتقال اختبار من الله، ككثير من الاختبارات التي يعيشها بني آدم كجزء من سنة الحياة، فهناك أم ابتلاها الله بطفل معاق، وهناك شاب ابتلاه الله في صحته، وهناك من كان اختباره في بصره، وهناك من فقد أمه وأباه في حادث سير، وهناك.. وهناك.. وهناك.. نريد أن يصل هذا المعنى لأبنائنا: الاختبار جزء من حياة الإنسان، وهناك ابتلاءات تصرف ابتلاءات أخرى، لعل الله يبتلي شخصاً من جانب ليخفف عنه، من جانب آخر ابتلى به شخصاً آخر.

هناك مساحات شائكة حول الدين والعقيدة: لماذا لم يحقق الله العدل؟ لماذا لم يستجب للمستضعفين؟ وغيرها.. ربما هذه المساحات أتحدث عنها لاحقاً باستفاضة أكثر، ولكنني سأكتفي بأن أوضح أن الطفل يجب أن يعلم أن هناك جزاءً في الآخرة، وأن التعيس هو الذي يعيش مائة عام سعيداً ثم يناله العذاب الأبدي، وأن السعيد هو من يعيش مائة عام يعاني ثم يناله نعيم أبدي. وهنا تأتي نقطة أيضاً شائكة: نحن لا نزرع في ابن الشهيد الألوهية -كما ذكرت سابقا- أو أنه الحق وما سواه الباطل، ولا نوزع صكوك الغفران، ولا نحتكر الحقيقة، ولكننا فقط نتقرب إلى الله بما يغلب على ظننا أنه الحق، وننتظر منه الثواب على اجتهادنا، لينشأ جيل سوي، قوي، متزن، مستبشر، منتصر باذن الله تعالى.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد