طبيعي أن يعتز المرء بهويته وانتمائه ولغته، لكن من غير الطبيعي أن يقدس بعض المكونات الهوياتية المتطورة ويدرجها في دائرة الثابت، وأن يقفز فوق المنطق العلمي لتبرير ذلك التقديس.
يزعم بعض الغيورين على لغة الضاد أنها اللغة الأم التي تفرعت منها اللغات الأخرى، وأن لها الفضل على سائر اللغات، ويحشدون لذلك حججاً من التراث الديني والأدبي، ومن ذلك أن العربية هبة من الله، كما قال أهل التوقيف، وعلى رأسهم ابن فارس: "اعلم أن لغة العرب توقيف، ودليل ذلك قوله جل ثناؤه: (وعلم آدم الأسماء كلها)"، وأنها لغة القرآن، ولغة آدم الإنسان الأول، ولغة أهل الجنة.
لكن يبدو أن هذه الحجج لم تعد كافية في نظرهم، خاصة أنها لا تقوم على أساس قوي؛ إذ لا دليل على أن اللغة العربية هبة من الله وأنها توقيفية؛ فقد اختلف اللغويون والمتكلمون قديماً في هذا الأمر، منهم مَن ذهب إلى أن اللغة اصطلاح لا توقيف، ومنهم مَن توقف في ذلك؛ لعدم وجود دليل واضح يؤيد إحدى وجهتَي النظر، وهو موقف ابن جني.
كما لا دليل على أن آدم تكلم اللغة العربية، ولا على أنها لغة أهل الجنة، وهو ما أكده ابن حزم بقوله إن لا نص ولا إجماع في ذلك، وكشف ابن حزم ثغرة في الاستدلال بالآية العاشرة من سورة يونس على أن العربية لغة أهل الجنة؛ إذ يمكن بنفس المنطق الاستدلال بالآيات التي تصور حوار المعذبين على أنها لغة أهل النار، وذكر ابن حزم اختلاف أهل النظر في اللغة التي وقف آدم عليها، فمن زعم أنها السريانية، ومن قال: اليونانية، ومن قال: العبرانية، وذهب آخرون إلى أنها العربية، ولم يحدد ابن حزم هذه اللغة وأوكل علمها إلى الله، لكنه أكد أنها أتم اللغات وأبينها عبارة، وقرر أمراً في غاية الأهمية يرتبط بموضوعنا؛ إذ عد السريانية أصلاً للعربية والعبرانية معاً.
واعتبر ابن حزم أن لا معنى لتفضيل لغة على أخرى، واصفاً كلام جالينيوس الذي قال إن أفضل اللغات لغة اليونان بالجهل الشديد، وبيّن أن لا معنى لقول القائل: العربية أفضل لغة؛ لأن بها كلام الله.
صحيح أن العربية لغة القرآن، ويمكن أن نعد ذلك تشريفاً لها في خطبنا وأشعارنا ونصوصنا الأدبية، لكن من منظور آخر فإن كون القرآن نزل بالعربية لا يمنحها القداسة التي تخرجها من دائرة المتحول إلى دائرة الثابت، ذلك أن كل رسول إنما بُعث بلسان قومه بكل بساطة.
دفعت قناعة أن العربية لغة الله أو لغة الفطرة بعض الباحثين والكتاب إلى البحث عن أساس علمي يعضد وجهة نظرهم، فوجدوا ضالتهم في "علم اللغة الكوني" أو Universal Science of Linguistics -وهي الترجمة المتداولة في المواقع العربية- ظنَّ الكثيرون أنه علم من العلوم، في حين أننا لا نعلم شيئاً عن وجود فرع علمي بهذا الاسم، ويمكن للقارئ أن يستخدم محرك البحث؛ ليكتشف أن لا وجود لعلم بهذا الاسم.
لقد ألفى هؤلاء في هذا "العلم الوهمي" مستنداً لترويج خرافة أن العربية أم اللغات؛ لتأكيد فضلها على سائر لغات العالم، ودافعهم في ذلك اعتبارهم كل إعلاءٍ من شأن العربية إعلاء من شأن الإسلام، وتلك الفكرة ليست بالجديدة، فقد تحدث عنها الميرزا غلام أحمد، مؤسس الجماعة الأحمدية في كتاب له ترجم إلى الإنجليزية بعنوان Arabic- Mother of all languages، زعم فيه أن أول لغة علمها الله للإنسان هي اللغة العربية، وأن اللغات الأخرى تفرعت من هذه اللغة الأم.
كما سبق أن تطرق د. مصطفى محمود للفكرة نفسها في كتابه "عالم الأسرار" استناداً إلى بحث نشرته أستاذة متخصصة في علم اللغويات، وتوصلت المؤلفة في بحثها، كما ذكر مصطفى محمود، إلى أن "اللغة العربية كانت الأصل والمنبع، وأن جميع اللغات كانت قنوات وروافد منها"، ودليل المؤلفة على ذلك هو سعة اللغة العربية وغناها من الناحية الاشتقاقية والتركيبية، وكثرة الجذور اللغوية بها مقارنة مع اللغات الأخرى، فالعربية تحتوي على ستة عشر ألف جذر لغوي، وهو العدد الذي يفوق عدد ذلك في اللاتينية والسكسونية، وهو الطرح الذي يظل مجرد فرضية لم تؤكد.
وتلا ذلك ظهور كتابات عديدة توزعت بين كتب وأبحاث ومقالات تؤيد هذه الفكرة، يجمع بينها قاسم مشترك وهو أنها لم تقدم أي برهان علمي على هذه الدعوى.
في ظل عدم توافر مصادر لهذا "العلم" -علم اللغة الكوني- حتى ننظر إلى اهتماماته في مظانها، سنكتفي بالنظر في دعاواه العامة التي تذكرها المصادر التي انساقت وراء إشاعة وجود هذا العلم.
وقبل ذلك نريد أن نبين أن هناك مبحثاً في حقل الدرس اللغوي يهتم بدارسة الخصائص المشتركة بين اللغات Linguistic universals ككون جميع اللغات بها أسماء وأفعال، وأنها من حيث الأصوات تتكون من صوامت وصوائت، ولا مانع من أن نفترض أنه المقصود بـ"علم اللغة الكوني" على سبيل الجدل، مع أنه لم يكن من العسير على أصحاب هذا العلم -والحال هذه- أن يذكروا الاسم الصحيح والمتعارف عليه.
إذا كان هذا المبحث اللغوي هو المقصود بعلم اللغة الكوني، فلنا أن نسأل إذن: ما علاقة موضوع الدراسة في هذا المبحث بلغة آدم وبدعوى أن العربية أصل اللغات؟!
الإجابة واضحة، وتكمن في إرادة إيجاد مستند علمي لمزاعم لاهوتية لا دليل عليها أصلاً في الحقل اللاهوتي. ولذلك فإن علم اللغة الكوني ما هو إلا تعبير عن الممارسة العلمية الزائفة في مجال اللغويات، وهو مجال لم يسلم كغيره من تطفل التفسيرات والفرضيات العلمية المضللة. ذلك أن البحث عن "اللغة الآدمية" يعد من صميم اللغويات الزائفة، صحيح أن هناك مبحثاً لغوياً يهتم باللغة البشرية الأولى Proto-human language، لكنه بعيد كل البعد عن ديدن اللغة الآدمية الذي يختلط بالتفسيرات الدينية، وحيث تتنازع الطوائف الدينية تلك اللغة المجهولة، كل منها يزعم أن آدم نطق بلغته.
وإذا افترضنا جدلاً أن لهذا العلم المزعوم صلة بمجال "علم اللغة المقارن"، فإنه لن يكون إلا ذلك النشاط المرفوض من قِبل اللغويين والذي يدّعي دراسة العلاقات التاريخية بين اللغات، تلك الدراسة الشبيهية الساذجة التي لا تلتزم بالتطبيقات المتعارف عليها في حقل اللغويات المقارنة ولا تنبني على المبادئ العامة للمنهج العلمي، وتقحم الاعتبارات الدينية والسياسية في البحث العلمي الذي يتعين فيه التزام الحياد.
الآن ما هي نقطة بحث علم اللغة الكوني؟ وما هي نتائج دراسته استناداً إلى أقوال وكتابات دعاته ومروجيه؟ نقرأ في إحدى المجلات ما نصه: "يدرس هذا العلم لغات العالم مجتمعة في آن واحد من خلال مقارنة النظام النحوي في هذه اللغات لمعرفة الظواهر والصفات والأسماء والأفعال، وينظر من أي لغة انحدرت مفردات كل لغة من خلال علم اللغة الوراثي، الذي يدرس العلاقة الجينية بين اللغة العربية وباقي لغات الكون".
"يستمد هذا العلم كل قواعده من القرآن الكريم"!
"رواد هذا العلم وجدوا أن النسيج الصوتي في القرآن الكريم لا مثيل له على الإطلاق في أي لغة من لغات العالم"!
"ورأوا أن اللغة العربية هي اللغة الأم التي انبثقت عنها كل لغات الكون"!
يظهر من هذه الاقتباسات أن الأمر يتعلق بالبحث الزائف في مقارنة اللغات؛ لأن الكاتب ذكر أن هذا العلم يهتم بمقارنة النظام النحوي في اللغات التي يدرسها مجتمعة؛ ثم أضاف عناصر لا تمت بصلة إلى البحث اللغوي؛ كقوله إن هذا العلم يستمد قواعده من القرآن! بينما علم اللغة المقارن أو الفيلولوجيا المقارنة لا يستمد قواعده من القرآن، كما لا توجد دراسة جادة تقول إن اللغات انبثقت من العربية، ثم ما هي مصادر هذه الادعاءات؟ لا يذكر الكاتب سوى مصدر واحد، وهذا المصدر ليس بحثاً أكاديمياً ولا كتاباً، بل هو الشخص الذي يبدو أنه يقف خلف إشاعة علم اللغة الكوني والذي ظهر قبل سنوات على إحدى الفضائيات الإسلامية!
تنتمي اللغة العربية إلى اللغات السامية التي تعد فرعاً من عائلة اللغات الأفروآسيوية، وللغات السامية لغة أم Proto-semitic يفترض أنها انحدرت منها، فالعربية كأخواتها العبرية والآرامية وغيرها لها أصل مشترك، وهذا الأصل غير معروف، كما لم يثبت أن العربية أقدم لغة سامية؛ إذ تذكر بعض المصادر أن أقدم لغة سامية موثقة هي الأكدية، وقد رأى ابن حزم منذ قرون أن السريانية أصل للعربية والعبرانية كما سبق الذكر. إن الغموض الذي يكتنف نظرية اللغة الأولى هو ما ساهم في تناسل الظنون والتخمينات، وفتح المجال للتفسيرات الزائفة التي ينتهز أصحابها الغموض أينما وجد للدفاع عن أفكارهم اللاعقلانية.
وقد دفع البعضَ اقتناعُهم الدوغمائي بأن العربية أم اللغات إلى إنكار الثابت أكاديمياً وهو انتماء العربية إلى اللغات السامية! وإلى نفي أن تكون العربية كسائر اللغات قد خضعت للتطور إلى أن وصلت إلى صورتها النهائية، لأنها حسب وجهة النظر هذه سماوية المصدر. والحقيقة أن مثل هذه التفسيرات اللاهوتية لا أساس لها من الصحة في مجال البحث العلمي الجاد، وقد نفى غير واحد من المفكرين والباحثين اللغويين نظرية الأصل الإلهي للعربية التي تحدث عنها القدماء، وأن تكون العربية قد ظهرت متكاملة بشكل فجائي.
لقد نمت اللغة العربية وتطورت على مر التاريخ كغيرها من لغات العالم؛ فاللغة كالكائنات والظواهر خاضعة للتطور، ولم يثبت أن كانت لغة أو ثقافة بمنأى عن هذا القانون، واللغات تجمع بينها علاقة تأثير وتأثر وهذا ما يفسر التشابهات الموجودة داخل المجموعات اللغوية.
العربية لن تخدمها المحاولات اللاعلمية ولن يخدمها العلم الزائف، بل العلم الحقيقي الذي به تتقدم الأمم، اللغة لا تستمد قوتها من الخرافات والمزاعم الساعية إلى ساحة الجدل العلمي بغير دليل؛ بل تستمدها من تطور أهلها وترقيهم في مدارج الحضارة، بالتطور المادي والثقافي والفكري تتعزز اللغة وتكون لها القيمة والمكانة.
اللغة العربية لغة غنية وجميلة ما في ذلك شك، ولا خلاف في وجوب خدمتها وإيلائها العناية اللازمة؛ لأن اللغة رمز الهوية التي يعني ذهابها ذهاب أهلها، واللغة لا تنقرض إلا في ظل الجمود وضرب الصفح عن التجديد والتحديث.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.