اقرأ: كلمةٌ تختصر بين ثناياها خيراً وحِكمةً وتواضعاً وبلاغةً، اقرأ التي كُلما ابتعدت عنها، ازددت تكبراً وغطرسةً وجهلاً.
فأَنْ تقرأ، هو أن تسمح لقلبك وعقلك بالاتحاد بعد اختلاف كبير.. أن تقرأ هو أن تتجول في سوقٍ أندلُسية قديمة، ومن ثم تجوب الهند في عشرين صفحة، وبعد هذه الرحلة تتعرف إلى أفضل الأصدقاء لديك؛ الذي هو "أنت"، وتتحاوران لكي تُقررِا في الرحلة التالية إلى أي بلدٍ سوف تذهبان، وعلى أي مذهبٍ سوف تتعرفان وبأي حضارة ستلتقيان.
أن تقرأ هو أن تتمكن أخيراً من بدء نقاش مع ذاتك قبل أي شيء، وستعلم أنها من أكثر النقاشات فائدةً ولذةً، ومن أكثر الحوارات تشويقاً، و بعد أخذٍ ثم ردٍ تخرج بوجهة نظر ربما تُبدع بشيء من خلالها.
بالمختصر ومن غير إسهاب، متأكد من أنك قلت أو ستقول بعد قِراءة أول كتاب: "وجدت نفسي"!
دعونا نتقرب منها أكثر فأكثر كي نعود إلى أوج ازدهارنا وحضارتنا بها.
وليكن شعارنا "اقرأ ثم اقرأ ثم فكر ثم تكلم".
***
من خلال هذا الموضوع دعونا نتعرف معاً إلى كتاب حتماً بعد أن تقرأهُ ستزداد معرفةً بموضوعهِ الجميل وسردهِ البعيد عن الصعوبة والملل والغني بالتشويق والفائدة.
هي رواية "عالم صوفي" للكاتب المبدع "جوستاين غاردر"؛ وهو كاتب نرويجي ولد في الثامن من شهر أغسطس/ آب سنة 1952، ويعمل أستاذاً في الفلسفة وتاريخ الفكر، وهو يمارس الأدب والتعليم معاً.
وكتاب "عالم صوفي" هو الذي أخرجهُ للعالمية، حيث تُرجمَ إلى أكثر من ثلاثة وخمسين لغة، وبيعَ منهُ أكثر من ثلاثين مليون نسخة، وفي ألمانيا وحدها تعدت مبيعاتهُ المليون نسخة، وتم تحويلهُ لفيلم سينمائي.
وكتاب "عالم صوفي" تدور أحداثهُ حول تاريخ الفلسفة، وربما كُلنا نعلم أن الفلسفة لا تقتصر صعوبتها على محتواها فحسب، إنما كلمة "فلسفة" بذاتها متشعبة وغامضة المعاني، وبالمقابل معانيها ومواضيعها كثيرة وكبيرة، قابلة للنقد والصواب والخطأ.
والفلسفة هي كلمة مشتقة من اللفظ اليوناني "فيلوسوفيا" دخلت اللغة العربية في عصر الترجمة، ومعناها محبة الحكمة أو طلب المعرفة أو البحث عن الحقيقة.
وعلى الرغم من تحديد معنى الفلسفة، فإنهُ من الصعب جداً تحديد ما ترنو إليه أو تحديد مدلولها.
ولا يخفى علينا أن أبرز المواضيع المتداولة لدى الفلاسفة هي:
– أصل الكون وجوهره.
– الخالق (الصانع) والتساؤل حول وجوده وعلاقته بالمخلوق.
– صفات الخالق (الصانع) ولماذا وجد الإنسان؟
– العقل وأسس التفكير السليم، الإرادة الحرّة ووجودها.
فمثلاً إذا أردنا أخذ تعريف للفلسفة من وجهة نظر الفيلسوف نيتشه، فإننا نجده يقول :(من يعرف كيف يتنفس هواء الفلسفة يدرك أنها هواء أعالٍ، هواء شديد حاد، وعلى المرء أن يكون مجبولاً لمثل هذا الجو، وإلا فإن الخطر سيكون غير يسير، خطر الإصابة ببرد.
إذاً الفلسفة هي الحياة طوعاً في الجليد وفوق الجبال الشاهقة، البحث عن كل ما هو غريب وإشكالي في الوجود، وعن كل ما ظل إلى حد الآن منبوذاً من قبل الأخلاق).
وإذا ما أحببنا أن ندخل قليلاً في مجال الفلسفة ونسأل: ما هي الفلسفة؟
علينا أن نبدأ درجة درجة بعيداً عن الضياع والتشعب، وهذا الكتاب هو خير بداية وخير دليل.
يسرد لنا الكاتب تاريخ الفلسفة من خلال اعتمادها الأساسي على حوارات بين فتاة اسمها "صوفي إمندسن" ورجل غامض اسمهُ "ألبرتو كونكس". ويبدأ الرجل بإعطاء دروساً لهذه الفتاة حول تاريخ الفلسفة -من التاريخ القديم وصولاً إلى الحديث- تارةً، وتارةً يدس في علبة بريد بيتها أسئلة فلسفية تثير الشك والبحث لديها حتى تتجرد الفتاة "صوفي" ذات الـ14 ربيعاً من سطحية الحياة التي تعيشها وتبدأ بالغوص في أعماق عقلها، أفكارها، تساؤلاتها، مبادئها.
استطاعت تلك الفتاة إنقاذ نفسها من أفكار خامدة، استطاعت أن تكسر القيود التي فرضها المجتمع عليها.
حيث عندما سألها الرجل السؤال التالي: من أنتِ؟
قالت للوهلة الأولى: أي سؤال أبله هذا!
لكن بعد ذلك تُعلِمنا "صوفي" ألا نستهين بأي سؤال، تُعلِمنا أن نطيل ونتعمق بالبحث والشك، نراها وقد تغيرت طرق التفكير لديها.
ويعطينا أُستاذها دروساً في الفلسفة وتاريخ الفلاسفة وتطور أسئلتها التي رغم صعوبتها ممتعة..
فيقول لها: (هل تتابعينني، صوفي؟ هنا يأتي أفلاطون ويهتم بما هو دائم ثابت وأزلي في الطبيعة في الأخلاق والحياة الاجتماعية، في آن واحد إنهُ يضع كل هذا في سلة واحدة كان يحاول أن يُمسك بـ"واقع" نقي، أزلي وثابت. ولنعترف بأن هذا هو المطلوب من الفلاسفة، فليس دورهم أن ينتخبوا ملكة جمال العالم أو أن يدلونا من أين نشتري البندورة الأقل ثمناً، الفلاسفة يحاولون أن يجردوا هذا النوع من الأسئلة الخفيفة والراهنة بنظر بعض الناس، إنهم على العكس من ذلك يبحثون عما هو "حق" و"جميل" إلى الأبد بهذا نكون قد رسمنا الخطوط العريضة لفلسفة أفلاطون، ومن هنا ننطلق في محاولة فهم هذا الفكر الاستثنائي الذى طبع بعمق الفلسفة الأوروبية كلها).
من خلال هذه الرواية تكون قد دخلت في مجال الفلسفة، وعرفت تاريخها، جلست مع أهم الفلاسفة وحاورتهم، تعرفت على صديق جيد، من الممكن أن تكون تلك الرواية بدايتك في عالم الفلسفة، ومن الممكن أن تجد ضالتك، فكرتك، استنتاجاتك التي من الممكن أن تجعل منك شخصاً يطرح أسئلة.. شخصاً يجيب.. شخصاً لديه القدرة على أن يرى ببصيرته وعقله، ومن الممكن أن تمر على الرواية مرور الكرام وتأخذ معك شيئاً مفيداً.
من هنا دعونا نستأذن من "صوفي" و"أُستاذها" أن نتطفل عليهم ونتابع الدروس المُمتِعة معهم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.