"إنه يوم يختفي فيه الشِّقاق والخلاف، يوم من أيام الله المباركة، لنحلِبْ ناقتنا، لنحلِبْ مانديق*".
ذاك مقطع شهير من الأغنية الوطنية Aan maalno hasheeni Maandeeq "لنحلِب ناقتنا مانديق"، كلمات الأديب الصومالي سَحَرْدِيد محمد جَبِي وغناء الفنان الراحل محمد أحمد كُلُعْ، يحتفي بالاستقلال عن الاستعمار الأوروبي وتأسيس الدولة الصومالية عام 1960.
الأغنية علاوة على كونها احتفاء بالمناسبة المجيدة، كانت ضمن محاولات تقريب صورة الدولة الحديثة إلى المخيال الشعبي الصومالي، وتقديمها في شكل يتماهى مع الثقافة المحلية. فالناقة الحلوب في الأغنية استدعت معاني الرخاء، والتي -ضِمنا- تقود إلى الاستقرار، لاقتران النزاعات في البادية بالنُّدرة.
الصورة التي تمّ رسمها للدولة كانت مُبهِجة وفي غاية البساطة؛ وطن جميل يجمع شملنا، نضمّ إليه طوعًا أو كرهًا ما مزقه الاستعمار وبعثره في دول الجوار، نغرف من خيراته التي لا تنضب والسلام. جُلّ القصائد والأغاني الوطنية التي أُلِّفت في الخمسينيات والستينيات مفعمة بتلك الحمولة المتّقدة من شغف الحرية والوحدة وأحلام الوفرة، وإن أعطت تصورا شديد المثالية -والضحالة أحيانا- للواقع المعقد في الداخل والخارج والذي نشأ فيه مشروع الدولة الحديثة في الصومال؛ مشروع ما زال متعثرًا وغريبًا مع مرور أكثر من خمسة عقود على نشأته.
أخطر ما في الأغنية التاريخية أنها لم تتناول مسألة رعاية "مانديق" وحمايتها، اكتفت الكلمات بالتركيز على منافعها، وكأنها تمهيد لظهور تلك الفئة المُدَلَّلَة من السياسيين، الحاضرة في كل مرحلة كشوكة في حلق الوطن، تستأثر بالناقة/الدولة، تاركة لغيرها قطرات الحليب العالقة على حواف القدح، وتتجشأ من فرط ما التهمت من أموال عامة كلما فتحت فمها لتتحدث عن بناء الدولة.
ذات الأغاني المُبهجة ما زالت تصدح عاليًا بلحن مشوَّه، ربما لم ينتبه المعنيون بعد أن الترويج لقيمة الدولة اعتمادًا على هذا الأسلوب اللطيف بات اليوم مهمة أصعب مما مضى؛ الموظفون الحكوميون الذين لم يتقاضوا رواتبهم المتواضعة منذ شهور -مثلا- لن يهزّوا رؤوسهم طربًا كما فعل أجدادهم الطيبون في بداية المشوار.
المواطنون الذين يعلمون بالتجربة أن عُصبة القبيلة والمحسوبية والأوراق النقدية ما زالت الحَكَم الأكثر نفوذا في القضايا الشائكة، وأن بنود القانون القضائي محجوزة في مسودات لا تؤثر على الواقع الفجّ، أولئك المواطنون سيبحثون عن خشبة الخلاص عبر قنوات لا صلة لها بمؤسسة "الدولة".
فتاة المخيم ذات الثلاثة عشر ربيعًا، التي اغتصبها في غفلة وطن جندي من القوات الإفريقية لحفظ السلام، ولم تملك الدولة القدرة على معاقبة الجاني، ستكبر سريعًا، وسيكبر معها جرح غائر في الذاكرة، دون أن تفهم علاقة السلام بالاعتداء المسكوت عنه.
في هذا البلد الذي تتضارب فيه مصالح الكبار منذ الأزل فإن كلفة التقاعس عن إصلاح البيت الداخلي باهظة جدا، توريث الخيبة مُجددا ليس حلًّا، ولا بد أن هناك ما يمكن فعله في مساحة التحرك المُتاحة بدل السقوط المتكرر في قوائم الفساد والفشل العالمية.
في سياق شرحه لأفكار أفلاطون حول ما سماه بـ"حكومة الأغنياء"؛ يقول مؤرخ الحضارة ويل ديورنت في كتابه "قصة الفلسفة": "يحاول الناس وضع يدهم على التشريع متوهمين أنه بالإصلاحات السياسية يمكن وضع حد لنذالة وسفالة وغدر العالم، غير أنهم في الحقيقة لا يقطعون سوى رأس أفعوان خرافي ستنبت له رأس أخرى، إذ لا يجب ألا نتوقع وجود دولة فاضلة حتى يكون لدينا مواطنون فضلاء، وحكومة الأغنياء ستدمر نفسها بنفسها بسبب التهافت على الثروة، ومداهنة الغوغاء ستؤدي إلى الخطأ في اختيار موظفي الدولة. إدارة الدول علم وفن، والخراب يحل بالبلد عندما يصبح التاجر الذي يملأ قلبه حب الثروة حاكما، حيث تحل سياسة جمع المغانم محل إدارة وتدبير الدولة".
—
*مانديق اسم صومالي يدلّ على معنى الاكتفاء
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.