عندما نتحدث عن اللغة العربية في أوروبا، وفي فرنسا بالتحديد، فلا بد من ذكر المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية "الأنالكو". وقبل الدخول في صلب الموضوع، إليكم نبذة تاريخية قصيرة عن هذا المعهد العريق الذي تخرج فيه ناس نالوا من الشهرة ما يكفي لجعل هذه المؤسسة تحظى بمكانة كبيرة ضمن خانة أكبر الجامعات الفرنسية والغربية:
رأى المعهد النور سنة 1669 تحت اسم مدرسة اللغات للشباب، وكان هدفها تكوين مترجمين باللغات العربية والفارسية والتركية وسفراء قادرين على تمثيل فرنسا لدى الدولة العثمانية. تغير اسم المعهد ثلاث مرات وتغيرت معه أهدافه لتنضاف إليها على سبيل المثال تدريب المتسابقين الراغبين في ولوج سلك التعليم، والبحث في اللسانيات، والتاريخ والآداب. استقرت المؤسسة على اسمها الحالي منذ عام 1971، تُدَرَّسُ فيه حالياً ما يقارب 93 لغة ولهجة غير لغات أوروبا الغربية. ونجح هذا المعهد في تكوين عدة مستشرقين سطع نجمهم في المجالات التي اختاروا ولوجها، ولنا عودة لاحقاً مع أسماء بعضهم.
وبخصوص اللغة العربية، فقد كانت من أولى اللغات التي تم تدريسها بهذا المعهد، ولم يستثنِ التدريس اللهجات أو الدارجات بجوار اللغة العربية الفصحى. إذ بدأ التعليم الفعلي للغة العربية منذ عام 1795، ليعيش بعدها فترات تذبذب في فترة الاستعمار والانتداب. يمكن القول، إن اللغة العربية حلقت عالياً في سماء باريس بفضل أهميتها في العلاقات الدبلوماسية بين فرنسا ودول الشرق الأوسط، كما لا يختلف اثنان على الدور الذي لعبه أبناء المهاجرين من المغاربة في المكانة التي باتت تحتلها اللغة العربية بين اللغات الأخرى المُدَرَّسة بفرنسا. ومع الأسف، لم يدم هذا التحليق طويلاً، حيث تأثرت اللغة العربية وأبناء الجالية المهتمين بها من الأحداث التي شهدها الشرق الأوسط في التسعينيات، بسبب التخوف من كل ما له صلة بالعرب. ولكن، وكما أشرنا إلى ذلك سابقا، لا تسمح العلاقات السياسية والاقتصادية والدبلوماسية، بل وعلاقات الصداقة الوطيدة بين فرنسا والشرق الأوسط وشمال إفريقيا -لا تسمح- بإهمال لغة كاللغة العربية، اللغة الرسمية لأكثر من عشرين دولة. ولهذا يشكل اليوم قسم دراسات اللغة العربية بالمعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية أحد أكبر الأقسام من حيث إقبال الطلاب من كافة أرجاء فرنسا بل ومن دول أوروبية أخرى كإيطاليا وبلغاريا وألمانيا؛ نظرا لسمعة المعهد الممتازة، وتنافس اللغة العربية اللغات الآسيوية كاليابانية والصينية، فضلا عن لغات دول قوية الحضور على الساحة السياسية، كاللغة الروسية واللغة العبرية.
نعم، أصبح المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية منبعا يتخرج فيه الدبلوماسيون الممثلون لفرنسا. وليس إلا، فمنه تخرج على سبيل المثال، ماتياس إينار، آخر من نال جائزة غونكور الأدبية العريقة عن روايته "البوصلة" التي تتناول المبادلات غير المنقطعة بين الشرق والغرب. ويشار إلى أن ماتياس إينار درس العربية والفارسية في المعهد. تخرج فيه أيضاً بوريس بوالون، السفير الفرنسي السابق بالعراق وتونس، والمحتجزة السابقة في طهران كلوتيلد رايس والسياسي المغربي نبيل بن عبد الله، الذي يشغل حاليا منصب وزير السكنى والتعمير، ومحمد هنيد، أستاذ العلاقات الدولية، والمستشار السابق للرئيس التونسي السابق منصف المرزوقي، والذي أصبح وجها مألوفا في الإعلام العربي لما يقدمه من تحليلات قيمة لأهم الأحداث العالمية.
أقل ما يمكن قوله عن هذا المعهد الفريد من نوعه والذي أبرم على شراكات عدة مع بعض الجامعات العربية وذلك لحث الطلبة الفرنسيين على الذهاب إليها لتحسين ممارستهم للغة العربية بالاحتكاك مع الناطقين بها، هو أنه ملتقى حقيقي للحضارات ومنتدى جذاب للغات، ومكان تسوده قيم التعايش والتسامح بين طلاب وأساتذة وعاملين من أصول وديانات وتوجهات سياسية مختلفة. ويتميز المعهد بتوفره على عدة أقسام لغات تعمل بها أطر تربوية غايتها تلقين اللغات للراغبين في تعلمها، ولن تجد في هذا المعهد فرقاً في الاهتمام المعار لكل لغة على حدة. تنظم فيه أنشطة ثقافية تقف وراءها جمعيات الطلاب أو مراكز البحوث التابعة له، ولكل حضارة أو لغة يوم مخصص للتعريف بنفسها. ولقد قام قبل أشهر طلبة قسم الدراسات العربية، الذين أسسوا جمعية "الوصال" بتنظيم يوم حافل للعالم العربي، لتمثيله كما ينبغي؛ ونجحوا إلى حد ما في ذلك إذ دعوا أساتذة للتعريف بالأدب العربي، واستدعوا فرقاً موسيقية عربية وفرقة مسرحية قدمت عرضاً يليق بتاريخ المسرح العربي؛ ولم تنسَ طالبات قسم الدراسات العربية تقديم ما لذ وطاب من أطباق وشهوات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لتعريف العامة بها، وأقل ما يمكن قوله، إنها لقيت إعجاب الجميع. ولا يسع طلبة الشعبة العربية، إلا أن يضربوا لكم موعدا مع يوم العالم العربي بالجامعة لعام 2016 ليكون إن شاء الله أفضل من النسخة الماضية. أما أنا، فلن أبخل عليكم بتغطية هذا الحدث.
والمؤسسة أيضا مكان مفتوح لانعقاد ندوات ومحاضرات دون أية قيود، يعبر فيها المحاضرون بكل حرية. كانت آخرها، محاضرة نظمتها السيدة السعدية أگسوس بيانشتاين، المتخصصة في الأدب الإسرائيلي الناطق بالعربية والتي دعت الكاتب الفلسطيني، ابن بلدة دالية الكرمل، سلمان ناطور، والمترجم الإسرائيلي من أصول عراقية يهودا شنهاڤ، واللذان قدما ندوة غنية بعنوان "النكبة بين لغتين: من العربية إلى العبرية" إذ تطرقا إلى رواية "ذاكرة" وترجمتها إلى العبرية؛ وهي رواية فريدة في أسلوبها يتناول فيها صاحبها تهجير الفلسطينيين عام 1948 والمجازر التي تعرضوا لها من قبل الصهاينة. وقد تمت إتاحة الفرصة لي شخصيا لترجمة مداخلة سلمان ناطور من العربية إلى الفرنسية، ولزميلي الفلسطيني علي النابوسي لترجمة الدكتور شنهاڤ من العبرية إلى الفرنسية. والجدير بالذكر أن الترجمة الفرنسية لهذه الرواية ستصدر عما قريب، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على جودة رواية سلمان ناطور وأسلوبه المثير للانتباه من جهة، وعلى الاهتمام الكبير الذي يعيره المستشرقون للأدب العربي عامة وللرواية الفلسطينية على وجه التحديد من جهة أخرى.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.