تواضع مثقف

طريقة عرضه وشرحه للدروس -بالنسبة لي- كانت في منتهى الروعة، أمثلة من هنا وهناك وشرح مبسط، وابتسامة لا تبارح شفتيه كالعادة، وتواضع جم عند الإجابة عن الأسئلة التي يثيرها طلابه الشغوفون في التفاصيل المتعلقة بالعقيدة، وكأنهم كانوا مقدمة لطوفان موجة عقدية لم نرَ لها مثيلاً في التاريخ ذكرتنا بأيام فتنة خلق القرآن، اكتوت الصومال بنيرانها بعد بروز فكرة المحاكم الإسلامية وما تبعها من خلافات طالت حتى صفوف مثيري الفتن في البلاد.

عربي بوست
تم النشر: 2015/12/28 الساعة 02:17 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2015/12/28 الساعة 02:17 بتوقيت غرينتش

لم أرَ في حياتي شخصاً أكثر تواضعاً من الراحل الدكتور عبد القادر محمد الشهير بـ"عبد القادر غري" اكتسب لقب "غري" بلحيته الكثة والتي غطت أجزاء واسعة من وجهه.

تعارفت الراحلَ منذ بداية عام 1999 بعد عودته من السعودية التي قضى فيها أحلى سنوات عمره؛ طالباً للعلم والمعرفة، وانتقل مع أسرته للسكن في مدينة بوصاصو الساحلية بشرق الصومال. عودة الراحل إلى الصومال لم تكن بهدف الاستجمام ولا عودة اضطرارية كما يفعل المغتربون الصوماليون العائدون من أوروبا وأمريكا بهدف استنزاف مقدراتنا المالية الضعيفة أصلاً؛ إنما عودة طوعية لخدمة الصوماليين ثقافيا ومعرفيا، بعد انتشار الجهل واستمرار الحروب الأهلية فيها أكثر من عقدين من الزمن..

عاش الدكتور عبد القادر في السعودية ونال من جامعة "أم القرى" درجة الدكتوراه في العقيدة بأطروحة عنوانها "الانحرافات العقدية في المجتمع الصومالي" فرص العمل في السعودية لأمثاله كانت متوفرة ومغرية جدا تدر عليه رواتب عالية، لكنه اختار أن يعيش في الصومال رغم الظروف والتحديات.

أسّس الراحل مع رفيقه وصديقه المقرب الدكتور أحمد حاجي عبد الرحمن -والذي اغتالته الأيادي الآثمة في بوصاصو- جامعة شرق أفريقيا، والتي هي الآن منارة أكاديمية تخرج سنويا مئات الطلبة من شتى التخصصات.

مشروع الجامعة في البداية كان متواضعا للغاية، غرف صغيرة مقسّمة ما بين قاعات للدراسة وأخرى للإدارة، والمحاضرون الأساسيون فيها ونواة الجامعة هم كل من: الدكتور عبد القادر غري، ود.أحمد حاجي، مع مجموعة أخرى نالت تعليمها الجامعي في الوطن العربي.

أما في الوقت الحاضر فتملك الجامعة أراضي شاسعة ومباني ضخمة، وقاعات فخمة، نرجو أن يستمر العطاء، ولا يتوقف المشروع، فالمشاريع الكبيرة تبدأ متواضعة يغذيها المخلصون بدمائهم النقية، ويتولى أمرها -أحيانا- من لا يرحمها ولا يرعاها، ويكتسب منها قوته فقط.

سنوات البداية المتعثرة للجامعة كنت أدرس وقتها المرحلة الثانوية شابا يافعاً، انتقلت الجامعة من مقرها القديم بجوار شركة الكهرباء "إينايو" إلى جوار بيتنا الواقع قرب مدرسة الإمام الشافعي، وكنت ضمن مجموعة مراهقين أعجبتهم فكرة الجامعة، نتابع محاضرات د.عبد القادر غري في العقيدة من نافذة الفصل، متحمسين للفكرة لندرة الجامعات، أما حاليا تزايد أعداد الجامعات على حساب الجودة؛ دونما أي اعتبار للمعايير.

طريقة عرضه وشرحه للدروس -بالنسبة لي- كانت في منتهى الروعة، أمثلة من هنا وهناك وشرح مبسط، وابتسامة لا تبارح شفتيه كالعادة، وتواضع جم عند الإجابة عن الأسئلة التي يثيرها طلابه الشغوفون في التفاصيل المتعلقة بالعقيدة، وكأنهم كانوا مقدمة لطوفان موجة عقدية لم نرَ لها مثيلاً في التاريخ ذكرتنا بأيام فتنة خلق القرآن، اكتوت الصومال بنيرانها بعد بروز فكرة المحاكم الإسلامية وما تبعها من خلافات طالت حتى صفوف مثيري الفتن في البلاد.

بادرت شخصيا بخلق علاقاتي مع الراحل المقيم، البداية قلت في نفسي: إن الراحل من الشخصيات الأكاديمية الصارمة، ولا يتعدى حديثه مع الناس دقائق محدودة لانشغاله بالأعمال والمهام كعادة حملة الدبلومات الوسيطة من إيطاليا والذين كانت تعج بهم الصومال قبل انهيار الحكومة.

بعد لقائي الأول معه، تغيرّت نظرتي تجاهه، وجدته متواضعاً يكره الرسميات، ويحبذ العفوية في التعامل، لين الجانب، صومالي الطبع، لم تغيره سنوات الغربة في السعودية ولا موقعه الأكاديمي المرموق، ولا دراسته ذات الطابع السلفي المشهورة بتشدده.

بعد ظهر كل يوم من عودتي من المدرسة وبرفقتي صديقي المقرب، نجله عبد الله، كنا نزور منزل والده، كان يعاملني معاملة أبوية راقية، ويحثّنا على الصلاة وملازمة المسجد. وأحيانا كان يزورني في منزلي، يطرق الباب، ويسأل عني، كانت هذه لفتة كريمه منه، يوصيني بنجله عبد الله الذي كان يرافقني مصاحبة الظل لصاحبه، وكأنني شخص مسؤول، يوكل إليه مهاماً كبيرة.

عرفت -فيما بعد- أن تلك الزيارات الخاطفه لم تكن سوى نوع من التربية العملية للنشء، وغرس روح المسؤولية في نفوسهم، كنت أشعر بالاعتزاز عندما يزورني مؤسس جامعة شرق أفريقيا في منزلي. بعد طول تعاملي اليومي معه، توثقت علاقتي مع الراحل، أبوح إليه بأسراري، ويقدم لي بدوره نصحه الأبوي، ويحثني على التعليم واستمرار مشواره، وعدم الانقطاع عن المشوار الأكاديمي، وفي كل لقاء لي معه يختتم حديثه بضرورة المحافظة على صداقتي مع نجليه عبد الله وعبد الرحمن.. شاءت الأقدار أن نفترق، سافرت إلى السودان بغرض الدراسة، انقطع تواصلي معه عاماً كاملاً، لم أجد منه خبرا. سررت جدا عندما زار السودان ضمن وفد يضم شخصيات أكاديمية تعمل معه في الجامعة، وقّعوا مذكرات تفاهم مع جامعات سودانية مثّلت فاتحة خير أمام عشرات من حملة الدراسات العليا، تلقوا تعليمهم الأكاديمي بعد الجامعي بفضل الجهود التي بذلها الراحل، ولم تُفعّل الإدارات المتعاقبة للجامعة بعده الاتفاقيات، بل عجزت عن زيارة السودان، وتحريك الملفات الأكاديمية ودفعها إلى الأمام، وهو أمر مؤسف، فكل الجامعات الصومالية لها مناديب في السودان يسعون لمصلحة جامعاتهم؛ ما عدا جامعة شرق أفريقيا على الرغم من تاريخها وبدايتها العريقة، ومشوارها الأكاديمي الناصع بلا منازع.

التقيته -أثناء تلك الزيارة- في مقر ضيافة "جامعة أفريقيا العالمية" كان يتناول قطعة خبز ولبن، رفض أن يتناولها ما لم أشارك معه في الأكل، كان يشرب قارورة اللبن مرة، ويعطيني دوري لأشرب، ما يدل على تواضعه ولين جانبه، وهي لفتة لن أنساها ما حييت.

لم يسعفني الحظ في اللقاء معه مرة أخرى، رحل عن دنيانا الفانية بعد معاناة طويلة لمرض عضّال أصابه في كبده. تعلمت من الراحل دروسا تربوية وخدمية جليلة أبرزها: أن تغرس البذور وتروي الشجرة ولا تنتظر حتى يستقيم جذعها، فالمشاريع تبدأ متواضعه بإخلاص وتجرد القائمين عليها، وسرعان ما تتطور وتثمر، ويستفيد منها المجتمع، وجامعة شرق أفريقيا قامت بجهود جبارة بذلها الراحل، واليوم هي منارة أكاديمية تفتخر بها الصومال.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد