في خريف سنة 2013، كُتب لي أن أبدأ قراءة "ثلاثية غرناطة" لرضوى عاشور. كنت حينها أعيش في الصين.. لم تكن بين أحداث الرواية ومكان قراءتها أي نقط مشتركة جلية.. فقد كانت الرواية تؤرخ بحزنٍ لسقوط الأندلس وانهيار الأرواح المكلومة من الحزن والقهر واندثار الهوية، بينما كانت الصين تحكي باعتزاز عن مجد ضارب في أعماق التاريخ، مجد يتعدى عمره أربعة آلاف سنة.
كانت شرفة غرفتي تطل حينها على أرض فيحاء فارغة ابتدأتْ فيها أشغال توسيع الجامعة والسكن الجامعي من أجل استقبال طلاب أكثر في الموسم الدراسي القادم، كنت عند كل صباح أُذهلُ لرؤية شطر مهم جداً قد تم إكماله من أجل الانتقال إلى شطر آخر، كان رجال البناء وآلات الحفر ومعدات التشييد يسابقون الزمن في صمت وإصرار وعزيمة. فهم يبنون شيئاً أكثر من مقدس.. يبنون جامعة ومنارة للعلم.
كانت أحداث "ثلاثية غرناطة" تجثم على روحي جثماً، وخصوصاً أن رضوى كانت تحكي تفاصيل التفاصيل.. وكأنها عاشت هناك في الأندلس وعاصرت السقوط والهزيمة النكراء، تحكي ما عاشه أحد أجدادي قبل أن يحط الرحال في أرض المغرب هروباً من العجز والاضطهاد والذل، كانت الرواية جميلة حد الألم والحزن، فكل الأشياء الجميلة لا بد أن يلتصق بها شيء من الحزن حتى يكون لها معنى ومنطق.
ما إن أكملت الرواية وخرجت إلى الشرفة لأهدئ من روع خاطري وتزفر رئتاي الحسرة والحزن حتى لاحت لي الجامعة قد شيدت جل بناياتها في وقت وجيز جداً. تذكرت حينها أنه في وطني أو في جل أوطان العالم العربي لو أردنا أن نشيد جامعة لاستغرق الأمر على الأقل ثلاث سنوات.. من البناء والفساد والنهب. تذكرت الكثير من الأشياء الحزينة والمضحكة، فهناك أشياء حزينة جداً تصبح مضحكة ما إن تتعدى نسبة الحزن فيها الجرعة المتوسطة المقبولة من طرف العقل.
تذكرت رضوى عاشور وتحسرت لمعرفتها وأنا ابنة الثانية والعشرين، وتحسرت لأَنِّي قضيت جزءاً مهماً من طفولتي ومراهقتي أشاهد "المغنية" هيفاء وهبي ومثيلاتها وهي "تغني" بشكل مروع "بوس الواو" أو إحدى أغانيها الأخرى التي يغني فيها الجسد أكثر من الحنجرة. صوت هيفاء ومثيلاتها وكليباتهن تندرج ضمن الأشياء الحزينة من شدة البلاهة، فهناك أشياء من شدة بلاهتها وضحالتها تصير حزينة مع الوقت.
تساءلت عن عدد العرب الذين يعرفون هيفاء والذين يعرفون رضوى، ربما لو دخلت قسماً في ثانوية ما ووضعت صورهما وسألت عنهما لأجاب الكل بنجاح عن صورة هيفاء، بينما أنا شبه متيقنة أن عدد التلاميذ الذين سيتعرفون على رضوى لن يتجاوز الاثنين، وذلك في أفضل الحالات.
ربما لن نتعرف عليها لأن ماكتبته ثقيل جداً، أثقل من الزمن ربما وربما لأن التربية التي تلقاها جيلنا صارت تبخس كل ما هو ثقيل وتفتح الباب لكل ما هو تافه. لم نعد أكفاء لحمل القضايا. صرنا للأسف شديدي الخفة. اجتمع في جيلنا الكثير من الحزن والبلاهة..
لو عدت إلى نفس القسم وسألت التلاميذ، من أثقل من من؟ هيفاء أم رضوى؟ لأجابك الكل: هيفااااء.
لن يعرفوا أنه من الصعب جداً في عصرنا أن تجد شيئاً أثقل من رضوى، ومن السهل جداً أن تجد ما هو أخف من هيفاء.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.