ساقتني الأقدار أن أحضر محاضرة عن فن الخط العربي تاريخه وتطوره، وكنت أتساءل كيف نشأ الخط؟ ومن أين جاءت صورته؟ وماهي المراحل التي مرّ بها الحرف حتى وصل إلى صيغته الحالية؟ وكيف تتحول هذه الحروف إلى معان فبمجرد أن ترى كلمة مثل أسد تحضر في ذاكرتك تلك الصورة لحيوان ذي شعر كثيف حول الرقبة بشكله المتعارف عليه، وأيضا تتلاحق المعاني والتفاصيل داخل هذه الصورة.
ولعلك تعرف أن العربية كانت تكتب بدون نقط فلا فرق بين كلمة "جمل" و"حمل "فكلتاهما تكتبان "حمل" وكان يفهم المعنى المقصود من سياق الكلام، إلى أن جاء أبو الأسود الدؤلي في عهد عبدالملك بن مروان، فوضع النقط على الحروف المتشابهة، مثل التاء والثاء، والعين والغين، ويقال أن علياً بن أبي طالب طلب منه ذلك، بعد أن خالطت العرب العجم فتغيرت ألسنتهم، فوضع للعرب ما يميز كلامهم ويقومه.
" الإنسان يولد في شكل "الواو"، حين يُقَوِّمُ نفسه يظن أنه "ألف"، يعيش منحنياً طيلة الحياة، في حين أن اليوم الذي يكون فيه أكثر استقامةُ، يموت" – تعبير صوفي –
اختلف المؤرخون والباحثون حول نشأة الخط العربي فمنهم من يستدل بقول ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن أول من كتب بالعربية ووضعها هو إسماعيل بن إبراهيم، ثم سيدنا سليمان بن داود الذي كتب الكتاب لبلقيس ملكة سبأ وحمله الهدهد. -صحيح مسلم- وآخرون يقولون إن الخط من عند الله وهو إلهام، ويستندون إلى بعض الآيات الكريمة مثل: (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان مالم يعلم) .
والراجح عن الخط العربي أنه بدء قبل ظهور الإسلام ومن أقدم أنواع الخطوط العربية هو الخط الكوفي القديم وهو مأخوذ من الخط الحيري (الأنباري)، والخط الأنباري مأخوذ عن الخط النبطي ظهر فى مملكة النبط "قوم وفدوا من الجزيرة العربية إلى العراق"، والخط النبطي مأخوذ عن الكتابة الآرامية، مع ظهور الإسلام وتوسع الفتوحات الإسلامية ازدادت الحاجة إلى الخطاطين لكتابة المصاحف والرسائل في هذه الأقطار فانتشر الخط العربي معبراً عن الحضارة الإسلامية بشكل كبير، وظهر العديد من أنواع الخطوط وكانت الدولة العباسية هي العصر الذهبي للخط العربي فتعددت أقلام الخطاطين وخطوطهم حتى ضرب بهم المثل في إظهار ملكتهم للخط العربي، حتى زادت الأنواع عن عشرين خطا، منها المطور والمستحدث، خصوصا بعد اكتشاف الورق والأحبار التي أخذوها عن الصين وطوروها وصنعوا أنواعا أجود من الأوراق والأحبار.
ومن أشهر أنواع الخطوط العربية
1- الخط الكوفي: وهو أقدم الخطوط، نسبة إلى مدينة الكوفة، وقد كتبت به أول نسخ القرآن، وأثبت الخط الكوفي أن الخط العربي هو أفضل خطوط العالم زخرفة.
2- خط النسخ: سمي بذلك لأن الكتاب الأوائل كانوا ينسخون به المصاحف، والكتب الدينية، والمؤلفات. وأنشأ خط النسخ ابن مقلة ، وبلغ خط النسخ مبلغاً كبيراً في القرن الثاني عشر من الميلاد حيث استخدم في المصاحف، وفي الكتب الدينية.
3- خط الثلث: يسمى بذلك نسبة إلى سمك القلم، حيث كان يكتب قديماً بسمك كبير. ويعتبر خط الثلث سيد الخطوط، والكتابات الموجودة على الكعبة حالياً هي كتابة مكتوبة بخط الثلث.
4- خط الرقعة: سمي بذلك نسبة إلى الرقاع، وهي قطع من الجلد كانت تستخدم في نقل الرسائل بين الملوك، وهو أكثر الخطوط العربية تداولاً واستعمالاً، وخط الرقعة قليل التشكيلات.
5- خط الديواني: سمي بذلك نسبة إلى دواوين السلاطين، لأنه كان يصدر بالتعيينات في الوظائف الكبيرة، وتقليد المناصب الرفيعة. وهو أقرب إلى خط الرقعة.
6- الخط الفارسي: سمي بذلك نسبة إلى مدينة فارس في إيران. ويسمى النستعليق. وذلك لأنه مأخوذ من خط النسخ وخط التعليق. وخط التعليق هو خط الفرس الأول لكنه لم يستمر طويلاً.
" الواو ياحسن، هو الحرف الوحيد المتضمن لمعناه، فريد ومتعدد علي صورة المصور، حرفٌ مسافر" من رائعة ناصر الخمير – من فيلم طوق الحمامة المفقود-.
ويكفيك أن تتأمل رسائل الملوك والخلفاء على الرق، ثم الورق لتكتشف مفاتن خطوطها وتكويناتها وإيحاءاتها وأصالتها ودلالاتها، ومهارة رسم الخطوط فنطق بالكثير مما هو بديع ورائع، ورغم هذا التاريخ الحافل بتطور هذا الفن وإبداعه، للأسف إلى الأن تجد أن أنواع الخطوط المتوفرة فى المطابع والأجهزة الإلكترونية فقيرة وعقيمة بدرجة كبيرة، تعكس مقدار انهيار هذا الفن فى عصرنا الحالي، بعكس ما تجده في الحروف اللاتينية مثلا، فتجد تنوعا وتحررا للحروف وزخرفة الخط وأشكاله، قد يكون سقوط الخلافة العثمانية من أسباب انحدار هذا الفن أو أن اختراع الطابعة لم يكن عربيا فلم يتاثر بجمال الحروف وأسرار معانيها، فتقيد فى شكل جامد أو قد توجد أسباب أخرى.
ورغم أن اسمه الخط العربي إلا أنه يظهر للباحثين أن إسهامات غير العرب فى فن الخط وتطوره أكثر بكثير من إسهامات العرب أنفسهم كالأتراك والإيرانيين، ولك أن تقارن بين نسخة المصحف السعودي المنتشرة الأن ونسخة المصحف العثماني، للأسف لم يعد هناك اهتمام كاف بهذا الفن العظيم إلا في مدارس الخط في تركيا، وبعد المحاولات في الإمارات وقطر وبعض المسابقات العالمية التى تقام هناك، قد توجد العديد من أسماء مدارس الخط العربي فى العالم الإسلامي، ولكن يبقى السؤال من يهتم الآن بهذا الفن المبدع الذى قيل فيه "الخط لسان اليد وترجمان الإنسان "
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.