صورة
على يمين الصورة؛ تظهر لقطة من الثمانينيات السبعينيات. مجموعة من السمراوات الحسناوات، بتنانير قصيرة أو بناطيل "شارلستون"، بالزيّ النسائي التقليدي؛ الـ "دِرَعْ" أو الـ "غُونْتِينو"، حاسرات الرؤوس، يضحكن بدلال، يجلسن على مدرجات ملعب رياضي، يقفن أمام المسرح الوطني، في أي مكان آخر، بمناسبة عامة أو خاصة؛ لا تهم تفاصيل الأمكنة والأزمنة.
ما يهم هو رمزية اللقطة القديمة ووجه الاستدلال بها مقابل اللقطة الحديثة التي تظهر على يسار الصورة؛ فصل دراسي مكتظ بطالبات محجبات، بعضهن منقبات، تغطي خُمُرهنّ الطويلة أو ما نسميه عندنا بـ "الجلباب" أجسادهن، منكفئات على دفاترهن، لا ضحكات ولا دلال في اللقطة. تحت الصورة كتب بالعربية أو الإنجليزية: الصومال قبل وبعد الحرب الأهلية.
يعرض أحدهم الصورة للدلالة على فردوس مضيّع ذات حرب لعينة. يكتب عن حزنه على الجمال المحارَب، سخطه على "الخيمة" التي غطت الشعر والخصر والسيقان، ويتحدث بطلاقة عن اغتصاب المتزمتين للوطن. تنتظم التعليقات المؤيدة تحت الصورة، وأي صوت نشاز يكون غالبا متزمتا أو مخطوفا ذهنيا لا ثالث لهما. يردد القوم بأسى: كم كانت بلادنا رائعة.
مفارقة
ينشر أكاديمي محترم مقالة عن خطر تعريب الثقافة الصومالية، وابتعادنا المتمادي عن الزمن النقيّ، والتشوهات الفكرية التي ستصيب الأجيال القادمة وستضرب هويتها في مقتل، عن الفناء الذي يحمله لنا الضاد، ويجرّم تعليم العربية وتلقي العلوم والمعارف بها. المقالة التي لم تُكتب باللغة الصومالية بل بالإنجليزية؛ يصفق لها شباب ومثقفون للضرورة الوطنية المُلحّة.
في الفيسبوك؛ يضع صديق افتراضي منشورا طويلا عن أصلنا الإفريقي الكوشي، يرد عليه آخر بشجرة نسب قرشية عريقة تبدأ باسمه وتنتهي بعقيل بن أبي طالب أو أبو بكر الصديق، يدخل ثالث في النقاش المحتدم محتجا على تزوير التاريخ الصومالي. مجددا؛ لا أحد يكتب بالصومالية هنا، إنما بالعربية الفصيحة هذه المرة.
شتات
ما هو الزمن النقيّ؟
سؤال لم تجب عليه بشكل جاد قصائد رثائه، ولم تُعره اهتماما المقارنات المُلتاعة المجتزأة من سياقاتها المختلفة.
في الماضي؛ عرفنا المدارس الإيطالية والبريطانية، المدارس المصرية كانت حاضرة بقوة، وبحضور أقل زخما كانت ثمة مدارس سعودية.
الابتعاث إلى الجامعات العالمية في الستينيات والسبعينيات توجه نحو الشرق؛ جمهوريات الاتحاد السوفييتي، كوبا، مصر الناصرية؛ تناسبا مع تحالفات الحكومات الصومالية المدنية والعسكرية. في الثمانينيات حوّل النظام بوصلته صوب الغرب وحلفائه، صار الطلاب يبتعثون لأميركا، كندا، بريطانيا، والسعودية.
داخل أسوار الجامعة الوطنية تكررت حكاية التعليم الموزّع على لغات ومناهج عدة. الكليات العلمية كانت تدرس باللغة الإيطالية، باقي الكليات اعتمدت اللغة الإنجليزية في الغالب، وأقسام الدراسات الإسلامية درّست باللغة العربية.
لم يوجد منهج وطني موحَّد بأي مستوى، حتى مع كتابة اللغة الصومالية بالأحرف اللاتينية عام 1972. ذاك مشروع هائل يلزمه بال طويل وصبر افتقر إليه النظام العسكري، ولم يتأهّل له بعد من أتوا لاحقا.
ما أضافته الكتابة أنها ساهمت في تفعيل التواصل بين أبناء القومية الصومالية في منطقة القرن الإفريقي، لكنها لم تكن يوما المظلة العلمية التي أدرنا لها ظهورنا؛ كما يُراد لنا تصديقه. وربما تمثلت الحسنة الأبرز لتدوين اللغة الصومالية في حفظ الأدب والتراث الشعبي الصومالي الثريّ.
متاهة
المغالطة المنطقية الأكثر غرابة والتي يقع فيها الساخطون على التحولات الاجتماعية في صومال ما بعد الحرب الأهلية تكمن في الترويج لأوهام ثقافية لا سند لها من التاريخ. والطابع السجالي الذي يغلف حواراتنا حول قضايا اللغة والحجاب والأصل الصومالي المختلف عليه ساهم بانزياح الرؤية لإشكاليات المجتمع الصومالي الراهنة من منبر النقد المعرفي وحصرها في ساحة العداء الأيديولوجي.
فادعاءات القطيعة الثقافية مع المكون العربي من جهة والنوستالجيا العرجاء لنقاء ثقافي مُتخيّل من جهة أخرى لا تقدمان إطارا يمُكِّننا من فهم التحولات الاجتماعية والتناقضات الفكرية والتقلبات السياسية التي مرت بها البلاد خلال أطوارها التاريخية المتعددة.
غياب سطوة الدولة ألقى بظلاله على صراع الإرادات وتضارب الاتجاهات التي تجسدت في محاولات إعادة تعريف الهوية الصومالية، تلك المحاولات لم تتحرر غالبا من أسر الثنائيات (عرب- أفارقة، فيدرالية- مركزية، محاصصة قبلية- عدالة اجتماعية، وطنيون- أمميون، معتدلون- متطرفون.. إلخ) وهذا بدوره أسفر عن غبش في رؤية الواقع وخلل في التعاطي مع تعقيداته.
فكما أن التفاوض في السياسة لا يعادل التنازل والتبعية، والاجتهاد في الفقه لا يؤدي حتما إلى الضياع والتحريف، فإن الاقتباس الثقافي والتنوع الاجتماعي لا يعني بالضرورة هزيمة نفسية وتنكرا للأصالة؛ تلك التهمة التي تُقذف في وجه الآخر "العدو" على نحو ما.
"لمْ تغط جداتنا رؤوسهن"، لمْ يعرف أجدادنا ربطات العنق ولم يلبسوا الجينز، لا تنس ذلك أيضا يا عزيزي.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.