لمّا دَلَف إلى البهو الفارِه في القصر الفارغ اللهم إلا من أشعارٍ تزدانُ بها الحيطان.. وغيدٍ في رَوْضٍ يتراقصن على العِمدان.. ألفى نفسه قُبيل عقيلةٍ هي آية في الجمال.. صُوِرَتْ ملامِحُها في حُسنٍ واعتدالْ.. باتساق عجيبٍ واتفاقٍ عن الطبيعة غريبٍ كأنه ضربٌ من صنوفِ الخيال!
راعه جمالها، لاعه حُسنها، نَشج قلبهُ يخْفِقُ بحُبِها وبناتُ أفكاره يُلهبن صدره للانقضاض عليها والظَفْرِ ولو باستحْسانها وقَبْولِها.. فلمّا أفاق من غيبته وثاب إليه رُشدهِ اللاهِ الدالِه المُنتشي من خمرّ العشقِ والوَلَهْ.. اخترقت مداهُ بفتورِ نظراتِها وتَبرُّمها الظاهرُ في تَمْتَمَتِها البائنة لمن أصاخ السَمْعَ وهو عليل!
وجد نفسه ماثلاً بين نظراتها الحادة وحُسنها البادي.. وقبل أن تترك له مجالاً للبوح بما يضطرم في خلجاتِ نفسهِ وتنطق به هيئته وارتباكه، وذكورته المُنتفضة لتَبْسُط شمائله وتفرض مبادئه بغية أن يتبدى لها كماله وأفضليته ليشملها بقَوَامَتِهِ المزعومة..
باغْتَتهُ من فَورها بمسألةٍ رياضيةٍ ألجمت فِيِه وأرْدَته صريعَ الكتمانِ.. لمّا طال سكوته ولم يُحِرْ جواباً.. فاجأته بلفيفٍ من الطرحِ الوافِ لمسائل الفلسفة، صوغ النثر وقرّض الأشعار ما لهوله نُزِعَ لون وجههِ انتزاعاً وخارت عزيمته هواء!
فصَعّْدَته بنظرها لطول صمته وأشاحت عنه طَرَفِها لتنفض عنها غُبار جهالته الفُجّة فقتلته بإعراضها قبل أن تنغمس مِدية احتقارها في قلبه انغماساً لتتركه نَهبةً للذِلةِ والاستصغار..
هكذا بِتصَرُّفٍ في الصياغةِ كثير أتَذّكْرَ قصة الــ femme Fatale "دليلة" وحكمة "من الحُبِ ما قَتَلَ" المَعنونة بروايتها التي طالعتها مُنذ ست سنين ونَيّف لتتركني مُتسائلاً مُتحيراً في ماهية العلاقة بين الرجل والمرأة العارفة.. التي يتنافس الكثيرون في الاندفاع لمُهاجمتها بجسارةٍ وقِحةٍ ثم استهجان يُماثل نيل الحرس الأحمر الدؤوب من كاثرين العُظمى إبان اعتلائها عرش القيصرية!
وهكذا أيضاً يرى الرجالُ بعينِ الإعراضِ والنفور المرأة النامية العقل.. المُتفجرة الثقافة.. الواسعة المدارك في زمنٍ شَحَّ فيه طلب العلمِ، وكَثُر فيه الأدعياءُ من رويبضة الدُهماء الخالعين على بعضهم خُلَعٌ سُنَّتْ لغيرهم وألقاباً عَظُمَ عليهم نيلها وبَعُدَ ولو طُرحت على رؤوسهم أنْهُر المعارفِ مِدرارات.
يَنشُب مَعْشَرُ الرجالِ جُلُهُمْ أظفارهم نشباً في كبرياء تلك النساء بوسْمِهنَّ بالعَدَمية، والتشدُّقِ استهزاءاً بمهاراتهن النَسَوية (feminine skills) كعجزهن عن الطبخ وقِصَرِ أيديهن المغلولة عن أعمال المنزل من نَظْمٍ وتوضِّيبْ، حتى أن الأمر قد يصل في كثيرٍ من الأحوال لوَصِمِهِنَ بالمُجادلةِ والاسترجال.
أثبتت الدراسات الحديثة وفقاً لصحيفة الــ Independent (الإندبندنت) جُلُوَ فريةِ افتتان الرجال بالمرأة الذكية وتغاضيهم عن مُقوماتها الشكلية، مؤكدةً بما لا يدَعُ مجالاً للقطعِ أن الرجال دوماً يضعون نُصب أعينهم مُستمسكين بالحُلم والأماني المرأة الكاملة الأوصاف.. المليحةُ الملامحِ، المُتهدلة الرموش، ملفوفة الخِصرِ التي تَتَفْجَرْ ينابيعها أنوثة وحلاوة.. فيسعون لتلك الحاضرة الغائبة التي ينتقدها بعضهم علاّنية.. المُتكئة على أريكتها، المُقلّمة أظفارهاَ التي تَصْرِّفُ يومها وتبدد عمرها في التزّيُنِ والتصفيفِ.. مولّين الأدبار للظانين إياها أن تفوقهم ذكاءً واجتهاداً فتجد الواحد منهم لو اقترن بامرأة من ملةِ هؤلاء وتقدّمته كِداً ومُثابرة.. استشاط غضباً وربما رماها بأغلظ الأيّمانِ وأبغضِ الحلالِ!
لن أُفنى حبري مُنافحاً عن المرأة فإني وإن كنُتُ مُنجذباً إليها متودداً لست من مُناصريها. وإنما أرمي لتقرير حقيقة مؤداها يقضي بأفضلية المرأة الذكية.. فإن مُجتمعاتنا لم يَنْخُرّ في جوانبها الفسادُ ويترّبع إلا بسبب إهمالنا للمرأة ومكانتها التي حَفِظها وكرّمها الإسلامُ.. تلك المدرسة التي أعدت فيما مضى أجيالاً حملوا الألوية على أسنّةِ الرماح والمشاعل على حوافِ الكُتبِ والمخطوطات جائبين رُبوعَ الأرضِ ونواحيها بحضارةٍ لم يروِ التاريخُ في صحائفه لها مثيلاً.. فالاهتمام بتثقيف وتوعية وزيادة النماء الفكري للمرأة يُدِرُّ أرباحاً لا حصر لها ولا حَدَّ، على المُجتمعِ أقلُها ضمان تنشئة شباب ينهضون بدورهم التاريخي في إحياء الحضارة وبعث المَجْدِ التليد..
فيا معشرّ الشباب أوصي نفسي وإياكم بــ"دليلة" (المرأة المُثقفة العارفة). عليكم بالظفَر بيدها وعدم الوَجَل فإنه تحتَ ستارِ اعتزازها ورقة ملامحها وصلاّبة نظراتها عقلٌ هادرٌ.. طوبى لمَنْ استغلهُ في بناءِ أُسرةٍ وتَنْشِئَةِ أطفالٍ.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.