"الميثريداتية" أو "Mithridatism" هو مصطلح يشير إلى عملية يقوم بها الشخص لحماية نفسه ضد السم، عن طريق تناول كميات غير قاتلة من السموم بشكل تدريجي وعلى مدى سنوات، حتى يكتسب المناعة ضد السموم، والكلمة مشتقة من "ميثراداتيس السادس"، أشهر شخصية عُرف عنها قيامها بهذه الممارسة، حتى أصبح يعرف بلقب "الملك الذي لا يقتله السم".
قصة حياة ميثراداتيس نفسها، لا تقل إثارة عن قدرته الخاصة، سواء كان تعرضه لمؤامرة اغتيال من والدته، أو كونه أحد الرجال القلائل الذين مثلوا تهديداً خطيراً على الإمبراطورية الرومانية بفضل امتلاكه موهبة كبيرة في السياسة والتنظيم والاستراتيجية الحربية، أو حتى طريقة موته التي لا تقل غرابة عن حياته.
ميثراداتيس السادس ملك في سن 12 عاماً
وُلد ميثريداتس السادس عام 120 قبل الميلاد، في مدينة سينوب على ساحل البحر الأسود، وكان الابن الأكبر للملك "ميثريداتس الخامس" حاكم بونتوس.
عندما كان ميثريداتس السادس في سن 12 عاماً، قُتل والده في ظروف غامضة بالسم، وتفيد بعض المصادر بأن زوجته قامت بذلك طمعاً بالحكم.
بعد وفاة زوجها أصبحت الملكة الوصية على العرش، وكان لميثراداتيس أخ أصغر منه، وكان تسلسله الثاني على العرش بعد ميثراداتيس، وبدأت والدته في تفضيل أخيه.
بعد ملاحظته أنه أصبح يصاب بآلام في معدته بعد تناول الطعام، اشتبه ميثريداتس في أن والدته أمرت بإضافة كميات صغيرة من السم إلى طعامه لقتله ببطء، وبدأ في الاشتباه في وجود مؤامرات ضده بناءً على أوامر والدته. وكان على دراية باحتمالية ارتباطها بوفاة والده، فهرب إلى البرية.
لكنه عاد بعد سنوات وخلع والدته من الحكم وألقاها في السجن وأعدمها مع شقيقه في نهاية المطاف.
هوسه بالسموم جعله الملك الذي لا يقتله السم
أخذ ميثراداتيس السادس على عاتقه التأكد من أنه لن يلقى نفس مصير والده. وبدأ نظاماً غذائياً خاصاً لاستهلاك السموم مع الطعام بانتظام، مع الحرص على تناول جرعات أقل من المستوى المميت. وكان يعتقد أن هذا التعرض المستمر من شأنه أن يبني لديه مناعة للتسمم من قبل أعدائه.
وكانت هذه الممارسة معروفة في بعض الحضارات القديمة، وتتم تحت إشراف متخصصين في الأعشاب والسموم، وخلال هذا الوقت أيضاً ظهرت أسطورة حول مزيج خاص من الأعشاب والمكونات الأخرى لإنشاء ترياق ضد أي سم. ولاحقاً عُرف هذا الترياق باسم "ميثريدات"، على اسم الملك نفسه، ولكن مكونات تلك الوصفة ضاعت مع الزمن.
وفي عصرنا الحالي توجد حالات مماثلة لدى بعض السكان المحليين في قرى منعزلة في جبال الأنديز الأرجنتينية الشمالية، حيث تكون تركيزات الزرنيخ مرتفعة قليلاً في مياه الشرب، فأصبح لدى سكان تلك المناطق مناعة ضد الزرنيخ، وتكيّف جسمهم للتعايش معه.
صراعات وتهديد حقيقي للإمبراطورية الرومانية
كما هو الحال مع العديد من الممالك والإمبراطوريات خلال ذلك الوقت، حاول "ميثراداتيس السادس" أن يوازن بين الحفاظ على أراضيه وتوسيعها، وكان منافسوه في ذلك الوقت الإمبراطورية الرومانية وبعض الممالك اليونانية المجاورة.
في البداية لم تهتم الإمبراطورية الرومانية لتحركات ميثراداتيس العسكرية، فقد توجه بعيداً عن أراضيها، وكان يحاول السيطرة على الأراضي القريبة من البحر الأسود. ومع كل انتصار عسكري ازدادت قوة مملكة بونتوس، ما جعل ميثراداتيس يقرر التوجه بحملة عسكرية للاستيلاء على منطقة كابادوكيا.
وحينها بدأ الصراع بين ميثراداتيس والرومان من جهة ومن جهة أخرى مع الملك "نيقوميديس الثالث ملك بيثينيا"، والذي كان لديه خططه الخاصة للسيطرة على كابادوكيا.
وبعد عدة مناوشات قدم الرومان عرضاً لنيقوميديس وميثراداتيس بأن يترك الجميع كابادوكيا "أرضاً مستقلة"، مقابل السلام بين جميع الأطراف، وهو ما وافق عليه الجميع لاحقاً.
سمحت فترة السلام تلك لميثراداتيس بالتوسع والسيطرة على أراضٍ أخرى بعيدة عن كابادوكيا، ومع صعود قوة مملكة بونتوس، وبحلول عام 89 قبل الميلاد، غزا كابادوكيا مرة أخرى. أدى هذا إلى رد عسكري من الرومان في حملة عرفت باسم "الحرب الميتثريدية الأولى".
بعد معارك استمرت 5 سنوات لم يكن ميثراداتيس قادراً على الحفاظ على الأراضي التي كان يسيطر عليها، وقرر الانسحاب إلى بونتوس، والتوقيع على معاهدة سلام، ولكنه قرر إعادة بناء جيشه من جديد وإكمال توسعه على أراضٍ جديدة.
وهذه المرة قرر عقد تحالفات مع الممالك اليونانية، لمواجهة الرومان، الذين قرروا أن عليهم التخلص منه وبشكل نهائي.
وبعد حرب طويلة تكبد فيها الطرفان خسائر كبيرة انتهى الأمر بميثراداتيس بفقدان معظم قواته، والانسحاب إلى الأراضي الشمالية عبر البحر الأسود، لكنه ارتكب مذبحة ضد الرعايا الرومان والإيطاليين في طريقه، ووصل عدد ضحايا تلك المذبحة إلى 80 ألف شخص.
وتغير تساهله السابق تجاه حلفائه اليونانيين؛ وقرر اللجوء إلى كل أنواع الترهيب، من الترحيل والقتل وحرق القرى، كل هذه الأعمال الوحشية دفعت المدن الباقية للتحالف مع الجانب المنتصر المتمثل بالرومان. أضف إلى ذلك أساليب تجنيده الوحشية في محاولة يائسة لإعادة بناء جيشه، والتي أدت إلى تمرد بين صفوف جنوده جعله يفقد السيطرة على قواته بشكل نهائي.
الملك الذي لا يقتله السم يقرر الانتحار بطريقته الخاصة
حين أحس ميثراداتيس السادس، بأن النهاية أصبحت قريبة، وكان يخشى أن يتم تسليمه إلى أعدائه القدامى الرومان، ولمنع مثل هذا المصير قرر الانتحار بتناول جرعة كبيرة من السم، ولكن لسوء الحظ وبسبب مناعته ضد السموم، لم يؤثر به السم الذي شربه، فطلب من صديق له أن يقتله بسيفه، حتى لا يقع أسيراً بيد أعدائه.
بينما تشير بعض المصادر إلى أن قصة السم لا يمكن أن تكون صحيحة، خاصة أن ميثراداتيس كان يعرف أنه يمتلك حصانة ضد السموم، وهناك روايتان مختلفتان لكيفية موته؛ بحسب الرواية الأولى، فإنه أعطى سيفه لصديقه المقرب وجعله يقتله دون أن يجرب شرب السم.
بينما تشير الرواية الثانية، إلى أنه لم يكن قادراً على إنهاء حياته بالسم أو بالسيف على يد صديقه، وبدلاً من ذلك لقي مصيره على أيدي حشد من المتمردين.