سجَّل التاريخ العديد من النساء اللواتي اشتهرن بأمجادهن وإسهاماتهن في مختلف المجالات، حفظ التاريخ لبعضهن اسماً رسَّخ في عقولنا أحداثاً سجلت في المراجع التاريخية، فمن بينهن من اشتهرت بجهادها البحري وأخرى كرست كل ثروتها لبناء أحد أهم معالم المملكة المغربية.
دعمت أركان أول دولة إسلامية في تاريخ المغرب
ابنة أمير أَوْرَبَة أهم وأشد القبائل بالمغرب خلال القرن الثامن، لم يذكر التاريخ ميلادها، ولكن ارتبط اسمها بإدريس الأول مؤسس الدولة الإدريسية التي حكمت المغرب ما بين 788 و974 للميلاد.
بعد مبايعة إدريس الأول من طرف قبائل زناتة وغمارة ومكناس وغيرها بعد الانتصارات التي حققها أثناء نشره للإسلام داخل بعض القبائل المغربية قررت قبيلة أوربة توطيد العلاقات من السلطان الجديد للمنطقة فلم تكن طريقة أفضل من مصاهرته؛ حيث تزوج إدريس الأول ببنت قائد القبيلة كنزة الأوربية سنة 790 للميلاد والتي ستكون فيما بعد سبباً في بقاء الحكم الإدريسي.
حسب العديد من الروايات تميزت كنزة بالجمال والحياء والرأي والدين إلى جانب الذكاء السياسي. لم يدُم زواجها طويلاً بسبب اغتيال زوجها إدريس الأول سنة 791م، في تلك الفترة ظن الجميع أن سلالة الأدارسة انتهت قبل أن تبدأ.
مع توالي الأيام بدأت أعراض الحمل تظهر على الأميرة كنزة لتبدأ حينها قصة انتظار مولود قد يكون هو الخليفة الجديد للمنطقة، خلال فترة حملها إلى أن تولى ابنها السلطة قادت كنزة المناطق التابعة لها بكل حكمة وشجاعة كما ساعدها والدها الذي كان يملك خبرة كبيرة في الأمور السياسية في إدارة الأمور الخارجية للمنطقة.
كانت كنزة حريصة على نشأة ابنها وإعداده لتحمل مسؤولية الحكم عند بلوغه، ومخافةً عليه مما حصل لوالده لم تسمح كنزة لأحد بإعداد طعامه حتى لا يلحق به سوء، بعد مقتل والدها كان ابنها إدريس الثاني قد بلغ 11 من عمره فسارعت كي تحشد دعم القبائل وتأخد له البيعة.
توسعت المدينة فاس في فترة حكم ابنها إدريس الثاني واعتبرها عاصمة الأدارسة، لكن لم تدُم فترة حكمه طويلاً لينتقل إلى جوار ربه في 36 من عمره، لكن في هذه المرة ترك ابنها وراءه 12 حفيداً ذكراً؛ حيث تزوج إدريس الثاني بعمر الـ16.
بعد وفاة ابنها تولى ابنه الأكبر محمد الحكم، ولعدم وقوع أي مشاكل على الحكم بين الإخوة أشارت كنزة الأوربية على حفيدها بتعيين ثمانية من إخوته ولاة على المناطق التي سيطر عليها إدريس الثاني، وستكون هذه الخطوة السبب في حماية المناطق من الغزو وتدعيم أركان الدولة.
لم يذكر التاريخ سنة وفاتها، لكنه صنفها بالمرأة التي ساهمت في انتشار الدولة الإدريسية أول دولة إسلامية بالمغرب الأقصى.
تونسية الأصل أسَّست أهم معالم المغرب
غير بعيد عن كنزة الأوربية كانت فاطمة الفهرية أو "أم البنين" كما لُقبت عبر التاريخ قد وُلدت في مدينة القيروان بتونس، ثم انتقلت مع عائلتها وبعض سكان المدينة إلى المغرب الأقصى، وبالتحديد إلى مدينة فاس التي كانت تحت حكم إدريس الثاني الذي حكم المغرب ما بين 791 و823 للميلاد وهو ابن كنزة الأوربية التي ذكرناها سابقاً.
كان لوالد وزوج فاطمة الفهرية مال كثير، غير أنه لم تمضِ سنوات كثيرة حتى توفي كل من أبيها وزوجها وأخيها لترث هي وأختها الوحيدة مالاً وفيراً من أبيها زيادة على ما تركه لها زوجها، بعد بضع سنوات انتبهت فاطمة أن المسجد المتواجد في المدينة ضيق على المسلمين فقررت بناء مسجد يتسع لكل السكّان.
حسب بعض المراجع التاريخية، اشترت فاطمة أرضاً بجانب بيتها، وسخرت مالها من أجل بناء المسجد في اليوم الأول من رمضان سنة 859 للميلاد، كما تعهدت فاطمة أنها ستصوم كل يوم إلى حين اكتمال بنائه.
استمرت أعمال البناء 17 سنة ومن تم افتتح المسجد سنة 876 وسمي بمسجد القرويين، ليتحول فيما بعد إلى جامعة القرويين التي تعتبر أول جامعة في العالم والتي تخرج منها أدبيون وعلماء كابن خلدون الذي ذكر فاطمة الفهرية قائلاً: "فكأنما نبهت عزائم الملوك بعدها، وهذا فضل يؤتيه لمن يشاء من عباده الصالحين".
توفيت فاطمة الفهرية في مدينة فاس سنة 878 للميلاد أي بعد سنتين من تشييد الجامع، ليرتبط اسمها إلى يومنا الحالي في المغرب وفي العالم بـ"مؤسسة أول جامعة في العالم".
حلمت بالإمارة في تونس وحققتها بالمغرب
من نفس مسقط رأس فاطمة الفهرية وُلدت زينب بنت إسحاق النفزاوية، أو زينب تنفزاوة بـ"الأمازيغية" سنة 1039 للميلاد، وهي ابنة إسحاق الهواري، أحد أكبر تجار قيروان آنذاك، المدينة الأمازيغية التي تقع اليوم بالشمال الغربي لتونس.
كانت زينب امرأة حسناء، فذاع صيت جمالها بين القبائل في أغمات ضواحي مدينة مراكش بالمغرب والتي انتقلت إليها برفقة عائلتها خلال طفولتها، حيث تنافس الرجال على الزواج منها، غير أنها رفضت ذلك، إذ اعتقدت أن حُسنها ينبغي أن يوصلها إلى مكانة مرموقة، فأصرت على ألا تتزوج إلا بمن يحكم البلاد بأسرها.
حسب كتاب تاريخ ابن خلدون تزوجت زينب النفزاوية في البدء بيوسف بن علي، وكان شيخاً على قبيلة وريكة، وبعد وفاته بمدة قصيرة تزوجها الأمير "لقوط بن يوسف المغراوي"، حاكم منطقة أغمات، لكن زواجها لم يدُم طويلاً.
بعد دخول الأمير المرابطي أبي بكر بن عمر اللمتوني إلى مدينة أغمات سحر بجمالها وحسنها ليقرر الزواج بها، لكن بعد نشأة صراع في إحدى الدول الإفريقية التابعة للأمير المرابطي قرر تطليقها؛ حيث علل ذلك بقوله: "يا زينب، إني ذاهب إلى الصحراء، وأنت امرأة جميلة لا طاقة لك على حرارتها، وإني مطلقك، فإذا انقضت عدتك، انكحي ابن عمي يوسف بن تاشفين؛ فهو خليفتي على بلاد المغرب".
لم تدخر زينب عن ابن تاشفين جهوداً في مساعدته، برأيها ومالها. هكذا، يسجل التاريخ أن رجاحة عقلها كانت سبباً في إتمام ما تبقى من "فتوحات"، وتثبيت دعائم الدولة المرابطية. وقد بلغ يوسف بن تاشفين بسند من زوجته مبلغاً غير مسبوق في الملك، بل وكان أكثر ملوك عصره مكانة، ذلك أنه تميز بعلو الهمة والشأن، كما استطاع أن يسيطر على البلاد.
حسب نفس الكتاب فلولا زينب النفزاوية لما استمر يوسف بن تاشفين على رأس هرم السلطة، فبعد عودة اللمتوني "زوج زينب النفزاوية السابق" من الحروب في الصحراء أشارت عليه برأيها بحكم معرفتها طباع اللمتوني؛ حيث قالت له: "إن ابن عمك لا يحب سفك الدماء، فإذا لقيته فاترك ما كان يعهده منك من الأدب والتواضع معه، وأظهر أثر الترفع والاستبداد، حتى كأنك مساوٍ له، ثم لاطفه مع ذلك بالهدايا".
كانت مشورة زينب السبب في عدم سفك الدماء بين أولاد العم فزوجها السابق لم يكن يحب سفك الدماء، فعند التقائه بابن تاشفين الذي لم ينزل من فوق صهوة حصانه فهم أنه لن يعيد له الملك، بل طلب منه أن يرجع إلى الصحراء وأن يكون الخليفة عليها.
أميرة الجهاد البحري!
من المناطق الأمازيغية جنوب المغرب نرتحل إلى الشمال وبعد مرور أكثر من 400 سنة على وفاة زينب النفزاوية وُلدت السيدة الحرة والتي سُميت في بعض المراجع بـ"عائشة" بمدينة شفشاون، وهي ابنة الأمير علي بن موسى العالمي حاكم المنطقة من 1471 إلى 1512.
تربت الحرة داخل عائلة سياسية بامتياز؛ ما جعلها تكتسب خبرة وظفتها في ما بعد لتجعل منها واحدة من بين أكثر النساء اللواتي تركن أثراً كبيراً في المنطقة وبالمغرب الأقصى.
تزوجت السيدة الحرة من علي المنظري، حاكم مدينة تطوان، شمال المغرب ما بين 1486 إلى 1510، بعدما توفي المنظري حاكم تطوان ظلت زوجته السيدة الحرة على سدة الحكم، قابضة عليه فقد كانت متنفذة ولها جاه عظيم، ناهيك عما وجده الناس فيها من حزم ودهاء وحسن سياسة، مع أن ولاية المرأة في ذلك الوقت لم تكن مقبولة؛ حيث اعتبرها البعض متطفلة على السلطة، حسب ما جاء في كتاب "دوحة الناشر" لابن عسكر الصادر سنة 1570.
لقبت السيدة الحرة بأميرة الجهاد البحري؛ حيث سببت الرعب لأساطيل أعدائها، فقد كانت تمارس المقاومة في غرب البحر الأبيض المتوسط، واستطاعت أن تبني علاقة متينة مع قائد الأسطول البحري العثماني بارباروسا في شرق المتوسط، فكان ذلك فاتحة لعداوة الإسبان والبرتغاليين أساساً، والذين احتلوا سبتة آنذاك.
لم يكن ذلك ترفاً، فالوضع السياسي آنذاك في غرب البحر الأبيض المتوسط كان يفرض "الجهاد البحري". استطاعت السيدة الحرة، فرض نفسها في معادلة الجهاد البحري في ذلك الزمن، بالرغم من نجاحها في ذلك، كان الوضع الداخلي لحكم شفشاون يعجل بنهاية غير متوقعة.
حيث استطاعت عائلة المنظري "زوجها الأول" تدبير مكيدة للإطاحة بها، حيث كانوا يرون أنهم أجدر بالحكم منها لتنتهي فترة حكمها سنة 1542 بعدما حكمت المدينة لمدة 32 سنة؛ حيث تمكن آل المنظري من أخد الحكم، توفيت السيدة الحرة يوم 14 يوليو/تمُّوز 1561 بمدينة تطوان شمال المغرب.
زوجة وأم السلاطين السعديين
من مدينة تطوان إلى فاس في نفس الفترة شبَّ صراع بين أبناء السلطان السعدي محمد الشيخ على السلطة بعدما اغتاله العثمانيُّون سنة 1557، ليتولى عبد الله الغالب بالله حكم مدينة فاس مقر الدولة السعدية ويستمر حكمه إلى سنة 1574.
بعد وفاة السلطان السعدي كانت التقاليد تفترض أن يؤول الحكم من بعده إلى أخيه الأكبر سناً، لكن الابن الأكبر للسلطان المتوفى والملقب بالمتوكل، استولى على الحكم حينذاك، في هذه الفترة ستظهر في المراجع التاريخية امرأةً محوريّة اسمها: سحابة الرحمانية، وقيل في مراجع أخرى إن اسمها مسعودة الوزكيتية. وأياً كان اسمها، ستلعب هذه المرأة دوراً سياسياً بالغ الأثر في فترة حرجة من تاريخ المغرب.
لا تذكر هذه المراجع شيئاً عن حياة سحابة الرحمانية، فلا إشارة إلى تاريخ ميلادها ولا وفاتها، ولا كيف شبت ولا شابت، عدا أنها من قبيلة الرحامنة. لكنّ سحابة هذه، هي زوجة السلطان محمد الشيخ، وأم أبنائه، عبد الله الغالب وعبد الملك وغيرهما. أما المتوكل، ابن عبد الله، فقد كان ابنه من إحدى إمائه.
نظراً لفطنتها وما خبرته في دهاليز القصور، تمتعت سحابة بقراءة جيدة للحظة السياسية، فكانت على دراية بموقع المغرب في الخريطة السياسية الدولية، وحدوده فيها، كل هذا ستوظفه في مسعاها مبايعة ابنها عبد الملك، سلطاناً على المغرب.
تبدأ القصة عند عودة أبنائها عبد الملك وأخيه المنصور الذهبي من اسطنبول إلى فاس بعد وفاة أخيهم محمد الشيخ، وكان لسحابة الرحمانية دور أساسي في كسب أولادها تأييد معظم القوات العسكرية، ليتمكنوا من الإطاحة بحفيدها المتوكل المستولي على السلطة.
من "هدية" للسلطان إلى أم السلاطين
بعد انتهاء الخلافة السعدية وقيام الدولة العلوية بسنوات سيسجل التاريخ واحدة من نساء المولى اسماعيل الكُثُر، خناثة بنت بكار التي قادها القدر أن تصبح زوجة أحد أشهر السلاطين المغاربة، وأُماً لولي العهد وجدة لسلطان آخر.
حسب المراجع التاريخية يذكر أن خناثة بنت بكار بلغت من العلم أسمى مراتبه، كما قيل إنها كانت فقيهة في العلوم الدينية، بل وكان لها من العزم أن ارتمت منذ بداية عهدها بقصر السلطان، في غمار السياسة ومشاقها. ولم يكن ذلك ليكون دون نتيجة، ففي عهدٍ انفجرت فيه الأطماع على السلطة، كانت خناثة السبب الرئيسي في بقاء شجرة أبنائها على سدة الحكم إلى يومنا هذا.
جمال خناثة لم يثنها عن تكبد مشقة نيل العلم، ولم يكن ليتركها تكتفي بلقب زوجة السلطان أو بإشقاء نفسها في منافسة نسائه تودداً إليه، بل راحت تعمق مداركها العلمية والفقهية، وارتمت في غمار السياسة وتدرجت فيها حتى أصبحت وزيرة ومستشارة عند زوجها السلطان.
كادت السلطة على إثرها أن تنفلت من قبضة يدي السلطان ابن خناثة، المولى عبد الله، الذي أقاله جيش عبيد البخاري لمرات عديدة، لوقوفهم في صف المولى أبي الحسن الأعرج ابن زوجة المولى إسماعيل الأخرى عائشة مباركة.
كانت خناثة بنت بكار المفصل دائماً في عودة ابنها للحكم بطلبها دعم أقربائها في جيش الودايا والمغافرة. رغم ذلك تمكن السلطان أبو الحسن الأعرج من الحكم لمدة سنة ونصف سجنت فيها خناثة لتدله على مكان أموال زوجها السلطان المولى إسماعيل.
لم تبُح خناثة بشيء عن الموضوع حتى استولى حفيدها سيدي محمد بن عبد الله على الحكم وأخرجها من السجن، والذي كان يستشيرها دائماً.
من هنا، يبدو جلياً كيف أن خناثة بنت بكار كابدت الكثير بعد وفاة المولى إسماعيل لتحافظ على سلطان أبنائها، كما أنه لم يتمكن أحد من خصومها من التخلص منها، وإنما ظلت صامدة واقفة في وجه كل من أراد أن ينازع شجرة الأسرة العلوية على السلطة التي لا تزال تستمر إلى يومنا الحالي بالمملكة المغربية.
توفيت خناتة سنة 1754 لتنتهي بها قصة أكثر امرأة أسهمت في بقاء الدولة العلوية بالمغرب.