لطالما كانت علاقة ستالين بعائلته وأولاده متوترة جداً، ولا سيما بنجله الأكبر ياكوف دجوغاشفيلي.
ولسنا نبالغ لو قلنا إن جوزيف ستالين (1878 – 1953) هو الرجل الأكثر سيطرةً ونفوذاً في تاريخ الاتحاد السوفييتي. وبعيداً من الاختلاف على تقييم فترة حُكمه التي استمرّت 30 عاماً، بين من اعتبره بطلاً قومياً ساهم في نهضة صناعية لبلاده، وبين من اعتبره ديكتاتوراً مصاباً بجنون العظمة، إلا أن الحياة العائلية لستالين كانت معقدة ومفككة.
لم يكن جوزيف ستالين زعيماً للاتحاد السوفييتي في العام 1907. في الواقع، لم يكن حتى معروفاً باسم جوزيف ستالين. كان لصاً ينحدر من عائلة فقيرة، وكاد أن يُصبح كاهناً لولا تمرّده وتحوّله إلى الإلحاد، وكان يُدعى يوسف فيساريونوفيتش دجوغاشفيلي.
حينها، في العام 1907، نفَّذ يوسف فيساريونوفيتش دجوغاشفيلي (قبل أن يكون جوزيف ستالين) عملية سطو على مصرفٍ في محافظة تيفليس وسرق نحو 3.4 مليون دولار من أجل القضية البلشفية، فحفظ مكانته بين أقرب أتباع فلاديمير لينين.
في العام نفسه أنجبت زوجة يوسف دجوغاشفيلي الأولى، إيكاترينا سفانيدزي (المعروفة باسم "كاتو") ابنه الأول ياكوف دجوغاشفيلي. لم يكن لدى العائلة وقت كافٍ للاحتفال بالمولود الجديد.
فقد كانت الشرطة الروسية تطارد يوسف دجوغاشفيلي في كل مكان بعد سرقة البنك، ما اضطرّ العائلة إلى الفرار باتجاه مدينة باكو في أذربيجان؛ حيث يُعتقد أن إيكاترينا أُصيبت بالتيفوس أو السلّ، ولم تنجُ منه، فتوفيت عن عمر 22 عاماً؛ بعد 9 أشهر فقط من ولادة ابنها.
استطاع يوسف دجوغاشفيلي التغلَّب على حزن فراق زوجته، واختار لنفسه اسماً جديداً هو جوزيف ستالين، أي "رجل صلب" أو "رجل حديدي". انغمس في مهامه الثورية، تاركاً ابنه ياكوف عند عائلة زوجته المتوفاة في جورجيا، بمحافظة تيفليس (المعروفة حالياً باسم تبليسي).
بقيَ الابن مع عمته، بينما كان والده يقاتل إلى جانب لينين في الثورة الروسية. ويُقال إنه نشأ شاباً حساساً انطوائياً، ولم يسافر إلى موسكو إلا في سنّ الـ14 عاماً، لتحوّل حياته إلى مأساة بعدما رآه الأب ضعيفاً مخيّباً لآماله.
العلاقة المتوترة بين جوزيف ستالين وياكوف دجوغاشفيلي
كان جوزيف ستالين فظاً متحجّر القلب، وهذا بالتأكيد ما ساعده في حياته الثورية. وفي حين اتسمت والدته بالحنان والرعاية، وكانت تدفع ابنها باتجاه أن يُصبح كاهناً، كان والده مُدمناً على الكحول وعنيفاً.
أساء جوزيف ستالين إلى نجله الأكبر، جسدياً وعاطفياً، تماماً كما كان يفعل والده معه. أراد الابن ياكوف أن يدرس القانون، لكن الأب أجبره على دراسة هندسة التوربينات والبطاريات، ومنعه من تغيير اسم عائلته إلى ستالين.. لتكون الرسالة واضحة، بأنَّ ياكوف دجوغاشفيلي لن يكون أبداً "ستالين".
يعتقد بعض المؤرخين أن ازدراء ستالين لابنه ينبع من أن الصبي كان يُشبه والدته. لم يستطع ستالين تحمّل هذا التشابه، الذي كان يذكّره دائماً بحزنه على فراق حبيبته الأولى. وفي هذا الإطار، يُروى أن ستالين جُنَّ جنونه في جنازة زوجته الأولى وقفز إلى القبر حاملاً جسدها.
عندما جاء ياكوف دجوغاشفيلي في نهاية المطاف للعيش مع ستالين، اكتشف أن والده قد تزوج مرةً أخرى وأنجب طفلين من زوجته الثانية، ناديجدا أليلوييفا. الطفل الأولى وُلد عام 1921 ويُدعى فاسيلي ستالين، فيما وُلدت شقيقته عام 1926 وسُمّيت سفيتلانا.
عانى كل طفل من مأساةٍ شخصية خاصة به. أصبح فاسيلي يشرب الخمر بكثرة في وقتٍ لاحق من حياته، واضطرّت سفيتلانا في عمر 6 أعوام إلى التعامل مع تداعيات انتحار والدتها. ومع ذلك، فقد كانت علاقة ياكوف دجوغاشفيلي بوالده جوزيف ستالين هي الأكثر اضطراباً.
محاولة انتحار ياكوف والانضمام إلى الجيش
ازداد توتر العلاقة بين ستالين وابنه الأكبر عندما التقى ياكوف دجوغاشفيلي في أواخر عشرينيات القرن الماضي بفتاةٍ تدعى زويا غونينا، ابنة كاهنٍ أرثوذكسي.
عاش دجوغاشفيلي وزويا معاً وقررا الزواج. لكن حين وصل الحبيبان إلى منزل ستالين المعروف باسم "داتشا" -وهو بيت صغير موسمي يُستخدم عادةً لقضاء العطلات- ليخبراه بقرار الزواج، كانت المفاجأة.
بدلاً من الاحتفال، غَضِب ستالين غضباً شديداً وعنيفاً لدرجةٍ جعلت زويا تغادر المنزل في حالة رعب. فيما أصيب ياكوف دجوغاشفيلي، الذي فشل مُجدداً في إرضاء والده، بحالةٍ من الهياج العصبي.
سحب ياكوف دجوغاشفيلي مسدساً وأطلق النار على صدره، محاولاً إصابة القلب. لكنه أخطأ الهدف واتجهت الرصاصة إلى رئته. بدأت زوجة أبيه، ناديجدا أليلوييفا، تضميد صدر الشاب المصاب واستدعت الطبيب.
ووفقاً لموقع Defense Media Network، هزَّ ستالين رأسه وقال لابنه باستهزاء: "حتى الانتحار، لا تستطيع فعله بشكل صحيح".
تزوج ياكوف دجوغاشفيلي وزويا في نهاية المطاف، لكنهما لم ينعما بحياةٍ سعيدة على الإطلاق. ماتت ابنتهما الرضيعة، واستمرّ الزواج لأقلّ من عامين.
بعد فترة قصيرة، في عام 1941، التحق الابن الكئيب بأكاديمية مدفعية الجيش الأحمر بناءً على إصرار والده. عُيَّن ياكوف دجوغاشفيلي، الذي عمل مهندس توربينات قبل انضمامه إلى الأكاديمية، قائداً لإحدى بطاريات المدفعية، قبل شهرٍ واحد فقط من الغزو الألماني للاتحاد السوفييتي.
الوقوع في الأسر وتخلِّي والده عنه
كان ياكوف دجوغاشفيلي مقاتلاً احتياطياً في الجيش الأحمر، لكنه رغم ذلك أُرسل إلى المعركة -مثل أي جندي آخر- عندما اندلعت الحرب. وبدلاً من المجيء لتوديعه شخصياً، اتصل ستالين بابنه على الهاتف وصرخ به آمراً: "اذهب وقاتل".
لم يقضِ دجوغاشفيلي وقتاً طويلاً في ساحة المعركة، بعدما وقع أسيراً مع عددٍ من زملائه في أيدي القوات الألمانية في بيلاروسيا أوائل يوليو/تموز 1941. حاول دجوغاشفيلي الهرب مرّاتٍ عدة، لكن دون جدوى.
اكتشف الألمان هوية ياكوف دجوغاشفيلي من زملائه الأسرى الآخرين، لكن النازيين لم يكن لديهم نية لإعدامه أو تعذيبه. وبدلاً من ذلك، عاملوه بلطف وكان استجوابه يدور حول آرائه الشخصية والسياسية أكثر من الأمور العسكرية.
تمثَّلت الخطة النهائية للألمان في استمالة ياكوف دجوغاشفيلي لكي ينضمّ إلى صفوفهم، ثم يستخدمون آلة الدعاية النازية القوية لإظهار "كيف خان ابن ستالين أبيه".
الآلة الدعائية نفسها سرّبت أنباء القبض على ياكوف دجوغاشفيلي، مدعيةً أنه استسلم طواعية. وفي البداية صدَّق ستالين هذه الرواية، لكن مع تدفق المزيد من المعلومات، أدرك أن ابنه قد أُخذ بالفعل عنوةً ولم يخن بلاده.
نفَّذ ستالين محاولاتٍ عدة حذرة لتحرير نجله من أيادي الألمان، لكنها جميعها باءت بالفشل.
في نفس الوقت تقريباً، عرض هتلر على ستالين صفقة مبادلة ابنه بالمارشال الألماني، فريدريش باولوس، الذي أسره الروس في معركة ستالينغراد. رفض ستالين عرض هتلر، قائلاً: "لن أقايض مارشال بملازم".
ووفقاً لموقع ati الأمريكي، كتب المارشال جورجي جوكوف في مذكراته الشخصية أنه عندما سئل ستالين عن ابنه، قال: "لن يخرج ياكوف من الأسر. سيطلق الفاشيون النار عليه. يُفضّل ياكوف الموت على خيانة الوطن".
ثَبُتت لاحقاً صحة كلمات ستالين، فقد استمرّ ابنه في رفض محاولات الألمان ليتعاون معهم. تحوّلت معاملتهم اللطيفة له في السابق، إلى معاملةٍ قاسية للغاية.
في 14 أبريل/نيسان 1943، ووفقاً للرواية الألمانية، قُتل ياكوف دجوغاشفيلي أثناء محاولته الهروب عبر السياج من معسكر الاعتقال النازي في زاكسينهاوزن، ونشر النازيون صوراً لجثته الممزقة بالرصاص.
ومع ذلك، كشفت رواية أخرى أن محاولة هروب ياكوف دجوغاشفيلي كانت على الأرجح محاولة انتحار. يبدو أن ياكوف قرّر إنهاء حياته، بإلقاء نفسه على السياج المكهرب لمعسكر ساكسنهاوزن، بعد أن علم بتخلّي والده عنه.
وبحسب أحد مسؤولي جبهة القتال السوفيتية-الألمانية، فإن تحقيقاً استمرّ 12 عاماً كشف أن "الحارس السوفييتي أطلق النار 4 مرات على ياكوف، لكن بات معروفاً الآن أنه أطلق الرصاص على جثة ياكوف".
إرث ياكوف دجوغاشفيلي
لم يعلم ستالين ما حدث لابنه؛ ووفقاً لابنته سفيتلانا، في كتابها Twenty Letters to a Friend، عرف فقط أنه قُتل بالرصاص من دون تفاصيل الزمان والمكان. وبعد الحرب، عرض مكافأة قدرها 250 ألف دولار في ألمانيا الشرقية لأي شخصٍ يُدلي بمعلومات عن وفاة نجله.
في العام 1945، عثرت المخابرات الأمريكية والبريطانية على ملفٍّ ألماني يخصّ ياكوف دجوغاشفيلي تضمّن تقرير تشريح الجثة، وشهاداتٍ من حراس معسكر الاعتقال والسجناء، إضافةً إلى صورٍ لجثة ياكوف ممدّدة على طول السياج، ورسالةٍ من القائد النازي هاينريش هيملر تؤكد وفاة نجل ستالين.
قرَّر الرئيس الأمريكي الأسبق فرانكلين روزفلت، ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، حجب هذه المعلومات عن ستالين لتجنيبه أيَّ معاناةٍ شخصية.
وقد حصل ياكوف دجوغاشفيلي في العام 1977، بعد وفاته، على وسام الحرب الوطنية من الطبقة الأولى.