عند وفاة "جي إدغار هوفر" عام 1972، نعاه الرئيس ريتشارد نيكسون في خطاب رسمي قائلاً: "أحد العمالقة، رمز وطني للشجاعة والوطنية والصدق والنزاهة الشبيهة بالغرانيت".
وأمر نيكسون بتنكيس الأعلام في أمريكا، وأن يدفن هوفر في مقبرة الكونغرس.
ولكن بعيداً عن الخطب الرسمية ومراسيم الدفن المهيبة، عندما سمع نيكسون خبر وفاة "هوفر"، قال: "يا يسوع المسيح! مات ذلك الحقير العجوز!"، وقال عنه في حياته: "لدينا هنا رجل كان سيهدم الهيكل على رؤوسنا، بما فيهم أنا".
ولم يكن نيكسون وحده الذي لم يرغب في وجود هوفر بمنصبه رئيساً لمكتب التحقيقات الفيدرالي الـ"FBI"، ما يقرب من 50 عاماً، بل سبقه كثير من رؤساء أمريكا، الذين أزعجهم وجود هوفر في المنصب.
خشي الرئيس هاري ترومان مثلاً، من قيام هوفر ببناء شرطة سرية وقال: "لا نريد الجستابو أو الشرطة السرية، مكتب التحقيقات الفيدرالي يميل في هذا الاتجاه، إنهم متورطون في فضائح الحياة الجنسية والابتزاز".
وأطلق الرئيس جون كينيدي لقب "الوغد" على هوفر، وكان الرؤساء في البيت الأبيض يأتون ويذهبون، ولكن هوفر بقي في منصبه، ولم يجرؤ أحد على الاطاحة به، فكيف أصبح "جي إدغار هوفر" بهذه القوة، ولماذا كان يخشاه الجميع؟
بداية حياة "جي إدغار هوفر" الشخصية الأقوى في أمريكا
وُلد "جون إدغار هوفر" في واشنطن عام 1895، وأمضى معظم حياته هناك، حتى إن مكان دفنه يقع بالقرب من منزل طفولته، بجوار مبنى الكابيتول هيل، ورغم منصبه الرسمي، لم يغادر هوفر الولايات المتحدة قط، ولم يمتلك جواز سفر، كما أنه لم يتزوج، وعاش مع والدته حتى ماتت وهو في الـ43 من عمره، وهو أمر غير مألوف في أمريكا.
لكن "جي إدغار هوفر" كان يتدرج في حياته المهنية والعلمية بسرعة، فحين كان شاباً درس القانون ليلاً في جامعة جورج واشنطن، وحصل على درجة البكالوريوس في القانون عام 1916، ثم درجة الماجستير في القانون بالعام التالي، ثم التحق بوزارة العدل بوظيفة "مراجع الملفات" في عام 1917.
لكن لم يمض سوى عامين فقط، حتى أصبح مساعداً خاصاً للمدعي العام حينها "أ.ميتشل بالمر"، حتى وجد شغفه في الحياة، وهو مطاردة من سمّاهم "أعداء أمريكا".
تضمنت مهنة هوفر المبكرة في وزارة العدل تكوين ملفات تعريف للنشطاء السياسيين، في وقت الثورة الروسية والاضطرابات الاقتصادية بالولايات المتحدة والمخاوف بشأن الهجمات الفوضوية، وانتشار الشيوعية.
أشرف هوفر على عمليات الاعتقال الجماعية، وترحيل "الشيوعيين" من الأجانب في أمريكا، والتي وُصفت بأنها مفرطة الحماسة، وتمت أحياناً بشكل غير قانوني للمشتبه بهم.
بعد الحرب العالمية الأولى، تم تعيين "هوفر" مديراً بالإنابة لمكتب التحقيقات (ولم يكن اسمه FBI بعد) في مايو/أيار 1924، وبعد سبعة أشهر فقط أصبح "جي إدغار هوفر" مدير المكتب.
"جي إدغار هوفر" يؤسس الـ"FBI" على نهج جديد لم يسبقه إليه أحد
بعد أن أصبح مدير مكتب التحقيقات، قام هوفر بـ"تنظيف" المكتب من العناصر السيئة السمعة، والتي عرف عنها الفساد وعدم الكفاءة، واستبدل الطاقم بفريق عمل كفء، وأعاد تنظيم الوكالة وإعادة بنائها على أساس مهني.
وجند الوكلاء على أساس الجدارة، ووضع أساليب صارمة لاختيار الموظفين وتدريبهم، ثم أنشأ ملف بصمات الأصابع الذي أصبح الأكبر في العالم، ووضع المعامل العلمية لكشف الجريمة؛ والأكاديمية الوطنية لمكتب التحقيقات الفيدرالي، التي تم إرسال ضباط إنفاذ القانون المختارين من جميع أنحاء البلاد إليها؛ لتلقي تدريب خاص.
خلال فترة الكساد الاقتصادي في الثلاثينيات، وحالة السخط على الحكومة والبنوك، والتي شعر بها كثير من الأشخاص في أمريكا، كان المجرمون ولصوص البنوك يتمتعون بكثير من الدعم الشعبي، مثل "جون ديلنجر"، و"بوني وكلايد"، و"بريتي بوي فلويد"، وغيرهم.
واحتفت الجماهير بهؤلاء المجرمين الذين يحملون السلاح. لكن بعد 4 سنوات فقط، استطاع "جي إدغار هوفر" تحويل دعم الناس من "بطل العصابات" إلى بطل أو "رجل الحكومة"، وهو اللقب الذي أصبح يطلق على عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي.
الوجه الآخر لـ"جي إدغار هوفر".. تجسس على الجميع وجمع أسرارهم المظلمة
على الرغم مما حققه "جي إدغار هوفر" من إنجازات في محاربة الجريمة، فإن أساليبه لم تخلُ من طرق ملتوية وغير قانونية أحياناً، ولأجل ذلك كان عليه أن يضمن بقاءه في منصبه دون أن يهدد طموحه أحد.
فاستخدم "هوفر" سلطات مكتب التحقيقات الفيدرالي الهائلة في المراقبة، وبحجة محاربة الشيوعية، أو الشكوك بوجود حالات تجسس لصالح دول أخرى، جمع هوفر المعلومات عن السياسيين والقضاة وجميع من كان له منصب أو سلطة في أمريكا، أو حتى مشاهير السينما وعالم هوليوود.
واحتفظ بأكثر الأسرار المظلمة عنهم، في ملفات خاصة به وتحت سيطرته الشخصية فقط، واستخدم حيازته لهذه الملفات السرية، ورقة ضغط للاحتفاظ بمنصب مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي.
فكان قادراً على إخافة حتى الرؤساء في البيت الأبيض، من خلال التهديد بتسريب معلومات ضارة عنهم، أو تشويه سمعتهم.
هوفر استهدف "مارتن لوثر كينغ" أيضاً باعتباره تهديداً أمنياً، وأطلق مكتب التحقيقات الفيدرالي على "مارتن لوثر كينغ" لقب "أخطر رجل في أمريكا".
وبحجة الخوف من "النشاط الشيوعي" بين أتباع "كينغ"، تمكن "جي إدغار هوفر" من التنصت على منزل كينغ ومكاتبه، كان عملاء الـ"FBI" يبحثون عن أي تصريحات سياسية شيوعية، لكنهم وجدوا أدلة على وجود علاقات غرامية بين كينغ وسيدة أخرى غير زوجته.
واستخدم هوفر ذلك السر لتهديد "كينغ"، وحاول "تحييده" عن طريق تسريب تلك المعلومات للصحافة، وعند اغتيال كينغ عام 1968، اتصل عميل مكتب التحقيقات الفيدرالي بهوفر ليخبره بأن كينغ قد أصيب بالرصاص، فأجاب هوفر: "آمل ألا يموت ابن العاهرة هذا، لأنه إذا مات فسوف يجعلون منه شهيداً".
أسرار "جي إدغار هوفر" المظلمة مكنت المافيا من السيطرة عليه
بحسب صحيفة الغارديان، فإن هوفر نفسه كانت لديه أسراره الخاصة التي يخشى أن تظهر للعلن، حيث كانت هناك أدلة على وجود علاقة جنسية مثلية بين هوفر ومساعده لفترة طويلة، "كلايد تولسون".
وكان من المثير للغرابة حينها، أن الاثنين كانا يتناولان العشاء معاً يومياً، ويقضيان العطلة معاً، ويفعلان كل شيء معاً، وأشار مقال صحفي بإحدى المجلات في الثلاثينيات من القرن الماضي، إلى مشية هوفر "المنمقة"، وعلق أحد الدبلوماسيين على "عطره الواضح".
ورغم أن التحقيقات الصحفية في وقتنا الحالي جمعت أدلة كثيرة ترجح وجود تلك العلاقة، فإنه لم يتمكن أحد من إثبات ذلك في حياة هوفر، ويبدو أن المافيا حينها كانت تعلم بالأمر ولديها أدلة عليه.
فقد كان هوفر رغم مطاردته للجميع من النشطاء السود والشيوعيين والعصابات، ومراقبة السياسيين وأصحاب النفوذ، التزم سياسة عدم التدخل تجاه المافيا التي نشطت في عهده على الصعيد الوطني، بدون أي تدخل من مكتب التحقيقات الفيدرالي "FBI".
وقد أثار موقفه من المافيا علامات استفهام عديدة، وبحسب صحيفة الغارديان، فإن المافيا كانت على علم بميوله الجنسية المثلية، وقال أحد زعمائها إن "جي إدغار هوفر في جيوبنا".
وإن هوفر كان يخشى كشف سره، وللتغطية على ذلك، انتقد وسعى إلى كشف المثليين جنسياً الآخرين، كما كان لديه عملاء يتسللون ويراقبون جماعات حقوق المثليين، بينما كان يتحدث علناً ضد المثلية.
ويعتقد الدكتور جون موني، أستاذ علم النفس في جامعة جونز هوبكنز، أن هوفر "احتاج باستمرار إلى تدمير الآخرين من أجل الحفاظ على نفسه، لقد تمكن من التعايش مع صراعه من خلال جعل الآخرين يدفعون الثمن".
توفي هوفر وأخذ أسرار 50 عاماً إلى قبره
في 2 مايو/أيار من عام 1972، وعن عمر ناهز 77 عاماً، توفي "جي إدغار هوفر"، وبمجرد سماع خبر وفاته، جاء الأمر من البيت الأبيض بإغلاق غرفة مكتبه الشخصي في مبنى الـ"FBI" إلى حين وصول موظفين من البيت الأبيض لجرد محتوياتها؛ وذلك في محاولة للحصول على الملفات والأسرار التي جمعها خلال نصف قرن من عمله.
لكن هوفر كان سبق الجميع بخطوة، وكان قد ترك لسكرتيرته الخاصة التي كان يثق بها كثيراً، تعليمات للتخلص من الملفات والتسجيلات التي كانت لديه.
لا يعلم أحد على وجه الدقة ما كانت تحتويه تلك الملفات، إلا أن القائم بأعمال المدعي العام حينذاك، لورانس سيلبرمان، كان قد نجح في الاطلاع على بعضها، وقال: "كان جي إدغار هوفر مثل الصرف الصحي الذي يجمع القاذورات، أعتقد الآن أنه كان أسوأ موظف حكومي في تاريخنا".
أياً كانت تلك الأسرار، فقد أبقت الجميع من السياسيين والقضاة إلى الرؤساء، تحت سيطرة هوفر لمدة نصف قرن، ومكنته من الاحتفاظ بمنصبه لمدة 48 عاماً خلال عهد 8 رؤساء و18 مدعياً عاماً.