لم تكُن المغنية والراقصة الأمريكية الفرنسية، الإفريقية الأصل، مجرد فنانةٍ استعراضية في تاريخ الأغنية الفرنسية الحديثة فقط؛ إنما يُمكن اعتبارها أيقونةً غنائيةً صامدة في وجه ديكتاتوريات القمع خلال القرن العشرين.
لم تكتفِ بيكر بنقل أو محاكاة النمط الغنائي الأوبرالي السائد آنذاك، بل خاضت تجارب فنية اعتُبرت ثورةً في حينها، عندما ركزت على العنصر الاستعراضي إلى جانب الصوت والموسيقى.. فأدخلت الرقص إلى الحفلات.
فالأجواء في باريس في "السنوات المجنونة" تلك، كما كانت تُسمى، ما زالت محافظة. وكانت "الفالس" الموسيقى المهيمنة في تلك الفترة؛ لذا عندما قرر مسرح الشانزليزيه تقديم مغنيةٍ سوداء، هرع الناس للحضور.. ليُفاجأوا، عند فتح الستارة، بمغنيةٍ ترتدي فقط تنورةً من القش. كانت جوزفين بيكر في الـ19 من عمرها، والتي صارت فيما بعد "فينوس السوداء".
بعيداً عن الألقاب العنصرية، قدمت بيكر حينها رقصةً جديدةً اعتبرها الناس شيطانية؛ إنها رقصة الشارلستون، التي كانت مشهورةً جداً في نيويورك ومجهولةً في باريس، قبل أن تظهر بعدها في تنورتها الشهيرة المصنوعة من الموز وتُذهل الناس، لتصبح المغنية الرئيسية في مسرح Folies Bergères.
حققت جوزفين بيكر حلمها في الفن الاستعراضي، بعد هروبها من التمييز العنصري في الولايات المتحدة. فأضحكت باريس على تعابير وجهها، وكانت مصدر تسليةٍ لها من خلال صوتها ورقصها. لن تنسى يوماً الاستقبال الذي حظيت به في العاصمة الفرنسية، وسيبقى غناؤها لعبارة "لدي حبان: بلدي وباريس" ملازماً لها حتى وفاتها.
جوزفين بيكر.. النجمة الجاسوسة بطلب من ديغول
وُلدت بيكر في سانت لويس بولاية ميسوري عام 1906، ونشأت داخل أسرةٍ فقيرة من قاع المجتمع الأمريكي. عانت من التمييز العنصري منذ ولادتها، في الوقت الذي شهد فيه أصحاب البشرة السمراء الويلات، فلم تتمكن من دراسة الغناء أو العزف.
قبل بلوغها العشرين من عمرها، كانت قد هربت إلى فرنسا بحثاً عن حلمها في الغناء والرقص، حيث ستتعرف على مُنتجٍ غنائي مغمور يساعدها في الدخول إلى بعض الفرق المسرحية الغنائية المغمورة، قبل أن تنطلق نحو الشهرة واحتراف الفن لاحقاً.
بعدما أصبحت واحدة من أشهر الفنانات في العروض الغنائية الاستعراضية في ثلاثينيات القرن العشرين، بسبب جمالها وعفويتها وقدرتها على اختراق الواقع الغنائي الفرنسي البرجوازي، لم تتوقف عند هذا الحد. أخذت جوزفين بيكر مسارها المهني على محمل الجد، وتعلمت التحدث بـ5 لغات، لتدخل العالم من بابه الواسع.
خلال الحرب العالمية الثانية، واستجابةً لطلب الجنرال شارل ديغول، أصبحت بيكر جاسوسةً في كل أنحاء أوروبا دعماً لفرنسا والحلفاء ضد النازية. وحتى عندما كانت تنتقل عبر نقاط التفتيش الدولية في إسبانيا والمغرب، وتوقفها الحواجز، كانت تقول إنها في "رحلة إلى إسبانيا". لكنها كانت في الواقع تعمل جاسوسة لصالح المقاومة الفرنسية، وتخبئ في ملابسها الداخلية أسراراً مهمة.
راهنت جوزفين على اعتقادها بأنه لا أحد سيجرؤ على تفتيشها، إذا ما ابتسمت ابتسامتها الشهيرة. فقد كانت حينها المرأة الأكثر انتشاراً في عالم الاستعراض حول العالم، فبقيت الوثائق السرية مخبأة بأمان في ملابسها الداخلية.
ذكرت صحيفة The New York Post الأمريكية أن الدور الذي اضطلعت به جوزفين في ذلك الوقت جعلها واحدة من البطلات الحقيقيات خلال الحرب العالمية الثانية، حين حاربت النازية وعرضت حياتها لخطرٍ كبير.
سيرة حياة جوزفين بيكر وتفاصيل عملها الجاسوسي سردها المؤلف الإنجليزي داميان لويس، بكتابه الجديد الذي صدر في يوليو/تموز 2022، تحت عنوان "العميلة جوزفين: جميلة أمريكية، وبطلة فرنسية، وجاسوسة بريطانية".
يروي لويس كيف حصلت -في العام 1961- على وسام جوقة الشرف الوطني، وهو أعلى وسام للخدمة العسكرية في فرنسا، بسبب المهمة التي نفذتها في إسبانيا والمغرب، وكيف امتُدِحت لاستعادتها "معلومات ثمينة".
رحلة جوزفين بيكر في عالم الجاسوسية
صادقت جوزفين مشاهير العالم، واستخدمت علاقاتها بهم لجمع معلوماتٍ عن تحركات القوات الألمانية، فكانت تنقلها سراً على الأوراق التي كانت تطبع نوتات موسيقى رقصاتها عليها.
يقول الكاتب الإنجليزي في روايته الجديدة إن جوزفين بيكر اشترت منزلاً على طراز الشاتو الفرنسي، وارتدت ثياباً لأبرز مصممي الأزياء، وكانت غالباً ما تسير في شوارع باريس مع فهدها الأليف "شيكيتا"، الذي ألبسته طوقاً من الماس. عاشت في فرنسا ما لم تكن لتعيشه في أمريكا، ووجدت معاملة تتسم بالمساواة.
ذات مرة، شاهدها أحد الزوار الأمريكيين ترقص في قاعة "فولي بيرجير"، فقال: "في الوطن، المرأة سوداء تنتمي إلى المطبخ"، فصمتت القاعة في فزع. ليرد مدير القاعة باقتضاب: "أنت في فرنسا، وهنا نعامل جميع الناس بالطريقة نفسها".
لكن القوى الظلامية كانت تأخذ في الصعود في أوروبا. ففي عام 1925، عندما كانت كتيبة العاصفة ذات "القمصان البنية" -التي انتمى إليها الزعيم النازي أدولف هتلر- مجرد مجموعة هامشية، أدت جوزفين عرضاً لها في برلين ولاقت تصفيقاً مدوياً.
وعندما عادت إلى ألمانيا بعد عامين -بعد أن اكتسب هتلر شهرة بنشر كتابه "كفاحي"، الذي وصف فيه أصحاب البشرة السمراء بأنهم "أنصاف قرود"- كانت ردة الفعل مختلفة للغاية. فقد استنكرت الصحف الألمانية والنمساوية وجود الراقصة السمراء، ووصفتها بـ"الشيطانة السوداء" و"إيزابل" الشريرة في الروايات اليهودية.
سألت إحدى الصحف: "كيف يجرؤون على وضع الشقراء الجميلة لي سايدل مع امرأة سوداء على خشبة المسرح؟"، وادعت صحيفة أخرى أن "تشنجات هذه الفتاة الملونة" يمكن أن تقوض حس الكرامة لمدينة درسدن. كانت الغوغائية شديدة لدرجة أن جوزفين خافت على حياتها.
بعد عشر سنوات، زين وجه جوزفين غلاف نشرةٍ تستنكر الفنانين "المنحلين" -نشرها يوزف غوبلز، كبير مسؤولي الدعاية في الحزب النازي- وفي العام نفسه، أي 1937، تزوجت جوزفين من رجل الصناعة الفرنسي اليهودي جان ليون.
تعاظم شغفها لمكافحة النازيين -والدفاع عن فرنسا التي تبنتها- إلى درجةٍ كبيرة للغاية. وفي العام 1938، أعلنت أن النازيين مجرمون، "والمجرمون يجب معاقبتهم"، وادعت أنها قد تقتلهم بيديها إذا ما استدعت الضرورة.
حوَّلت منزلها إلى قاعدة للعمليات
في العام نفسه، تواصل معها المكتب الثاني لهيئة الأركان العامة الفرنسية لتشغل منصب "مراسلٍ شرفي"، وهو منصب تطوعي يتضمن استعادة معلومات استخباراتية من أجل المكتب. كان العمل مجانياً من دون أي مقابل، مثلما هو الحال عادةً مع المناصب المماثلة. ولاحقاً حين بدأت الحرب العالمية الثانية، رفضت جوزفين بيكر تلقي أي أموال على عملها، وأحياناً كانت تلجأ إلى بيع مجوهراتها للمساعدة في تمويل رحلاتها.
بعد أن صارت جاسوسة بمدة وجيزة، علمت جوزفين عبر أصدقائها في السفارة اليابانية أن اليابان وقَّعت على ميثاق مناهض للشيوعية مع هتلر. كانت هذه المعلومة هي الأولى من معلومات كثيرة نقلتها إلى المكتب.
وبعدها أبلغت المكتب -من خلال أصدقائها في السفارة البرتغالية- بأنها علمت أن ألمانيا تخطط لاحتلال البرتغال المحايدة بهدف استخدام موانئها. وسرعان ما صارت واحدة من أهم مصادر القوة لدى فرنسا. منحت الجاسوسية جوزفين قدرةً على "أن ترد الصاع صاعين للنازيين، من دون الحاجة إلى إراقة الدماء"، وذلك حسبما ذكر لويس في كتابه.
عندما وصلت الحرب إلى فرنسا في عام 1940، تحول منزل جوزفين (شاتو دي ميلانديز) في إقليم دوردوني إلى قاعدة للعمليات؛ حيث يجتمع أعضاء المقاومة المحليون. كما كان مأوى للاجئين، فقد ضم زوجين يهوديين بلجيكيين آوتهما جوزفين لديها.
نُصب جهاز الإرسال اللاسلكي على البرج للتواصل مع بريطانيا، وامتلأ القبو بأسلحة من أجل المقاومة. وعندما مر عليها الألمان للتحقيق معها بعد تلقي اتهام موجه لها، أكدت لهم جوزفين أنها مجرد راقصة.
لكنها أبلغتهم بوضوح بأن "قلبها لا يستطيع الصعود فوق المسرح بينما هناك كل هذه المعاناة". وفي واقع الأمر، كانت جوزفين ترقص خلال الحرب، لكنها لم تكن ترقص أمام النازيين.
ولما كانت نجمة وراقصة، حازت جوزفين على ستارٍ سمح لها بالسفر بسهولة إلى بلاد أخرى -من البرتغال مروراً بإسبانيا ووصولاً إلى البرتغال- وهو شيء لم يكن معظم الأشخاص قادرين على الحصول على التأشيرات بفضله خلال الاحتلال.
في ردها على الصحفيين في الخارج الذين سألوها عن سبب مغادرتها فرنسا، قالت جوزفين: "جئت لأرقص وأغني"، لكنها جاءت في الحقيقة لنقل الرسائل والصور والوثائق التي قد تكون مفيدة للحلفاء، ولمقابلة المتعاطفين مع قضية المقاومة الفرنسية.
فحملت نوتة موسيقية تحتوي على معلوماتٍ، مكتوبة بالحبر السري، حول مواقع دفاعات العدو في جنوب غرب فرنسا. ووضعت أوراقاً تحمل تفاصيل مهمة في ملابسها الداخلية، وكان عملاء المكتب يسافرون معها متظاهرين بأنهم "مديرو جولاتها الفنية".
خلال الحرب، عملت مع "قادة الأمازيغ، ومشايخ الريف [من منطقة شمال شرق المغرب] ووجهاء العرب، والقوات الأمريكية من أصحاب البشرة السمراء والبيضاء، والفاشيين، بجانب قوات فرنسا الحرة".
تكريم جوزفين بيكر قبل وبعد وفاتها
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، عادت جوزفين مرة أخرى إلى ألمانيا في العام 1945. لكنها في هذه المرة، كُرمت خلال احتفالية انتصار الحلفاء في قلعة هوهنتسولرن، المنزل التاريخي للعائلة الملكية الألمانية. في نفس البلد الذي انتقص من قيمتها وسخر منها قبل سنوات قليلة فقط.
وبعد ذلك، رقصت من أجل الناجين من معسكر الموت في معسكر اعتقال بوخنفالد، الذين كانوا ضعفاء للغاية لدرجة أنهم عجزوا عن مغادرة السجون. ورغم أن مرض التيفوس كان منتشراً في المعسكر وكانت الجثث متناثرة هناك، فضلاً عن أن صحتها كانت متدهورة، وجدت جوزفين في نفسها قوة تسمح لها بأداء فقرة تسمى "في قريتي" (In My Village) عن المسرات البسيطة للوطن.
وحتى بعد تحرير فرنسا من النازيين في عام 1944 ونهاية الحرب في العام التالي، لم تتوقف جوزفين عن النضال من أجل المساواة لجميع الشعوب. كتب لويس في كتابه عنها: "لم تكن لتنسى أبداً درس سنوات الحرب: يجب النضال من أجل الحرية في كل يوم".
في عام 1963، شاركت بيكر في مسيرة واشنطن إلى جانب زعيم الحقوق المدنية مارتن لوثر كينغ جونيور، عندما ألقى خطابه التاريخي الشهير I have a Dream (لدي حلم).
توفيت جوزفين في العام 1975 عندما كانت تبلغ من العمر 68 عاماً، نتيجة نزيفٍ في الدماغ، وكُرمت بجنازةٍ عسكرية.
في نوفمبر/تشرين الثاني من العام 2021، قررت الحكومة الفرنسية تكريم جوزفين بيكر، عبر ضمها إلى مقبرة العظماء (البانثيون) في باريس، حيث تُدفن كبار الشخصيات الفرنسية (مثل فولتير، وفيكتور هوغو، وماري كوري) لتصبح أول امرأة سوداء تحصل على هذا الاحتفاء.
بقيت جوزفين بيكر ترقص حتى آخر يومٍ من حياتها، ولطالما قالت إن سنوات الحرب -رغم مآسيها- كانت أفضل أيام حياتها.