أفلس بسبب الكُسالى الذين استغلوا حلمه! المليونير الذي بنى “المدينة الفاضلة” وحلم بالمساواة للجميع

عربي بوست
تم النشر: 2022/06/17 الساعة 10:53 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/10/20 الساعة 19:38 بتوقيت غرينتش
لوحة مرسومة لروبرت أوين \Wikimedia Commons

إن كنت تعمل في وظيفة لـ8 ساعات يومياً، ولديك باقي اليوم للراحة وتقضي ذلك الوقت كما تشاء، فأنت مدين بذلك لرجل أعمال ثري ولد في إنجلترا عام 1771، اسمه "روبرت أوين".

"أوين" كان نصيراً للعمال ويطالب بتوفير ظروف عمل أفضل لهم، وكان لديه حلم لتأسيس "المدينة الفاضلة"، حيث جميع سكانها متساوون ويتعاونون في كل شيء، يأكلون معاً ويساعدون في تربية أطفال بعضهم البعض، والتعليم في المدينة مجاني ويستمر مدى الحياة لتعليم السكان كيف يصبحون بشراً أفضل، لكن في النهاية تحول حلم "أوين" إلى كابوس تسبب بإفلاسه.

الثورة الصناعية و18 ساعة من العمل يومياً

منذ بداية ظهور مفهوم العمل مقابل أجر، لم يكن هناك أي قوانين لساعات العمل أو مفهوم "حقوق العمال"، وكان الموضوع يعتمد بالكامل على الإتفاق بين صاحب العمل والأجير أو الموظف.

ومع بداية الثورة الصناعية في أوروبا خلال القرن الـ18، كان العديد من عمال المصانع يعملون حتى 18 ساعة في اليوم، دون ضمان صحي أو أي إجازات مدفوعة أو غيرها من الحقوق التي يتمتع بها العمال والموظفون اليوم، ناهيك عن عمالة الأطفال بظروف قاسية وفي أعمال تعد خطرة وفي بيئة عمل قاسية.

قصة نجاح - سيرة ذاتية - العمل
أطفال يعملون في المصانع\ shutterstock

"أوين" الذي لم يتلقّ أي تعليم رسمي، كان يمتلك مصنعاً للنسيج وهو في سن 21 عاماً،

لكنه وعلى غير عادة أصحاب المصانع الآخرين رفض ساعات العمل الطويلة، وكان أول شخص يدافع عن فكرة 8 ساعات عمل، و8 ساعات ترفيه، و8 ساعات راحة، لتحقيق التوازن بين العمل والحياة.

دعا "أوين" أرباب العمل في كل مكان إلى تبني هذا النموذج من الإدارة، وبدأ بنفسه فطبق الفكرة في مصانعه، واتخذ خطوات ليقلل من مساحات الاستغلال لعمالة الأطفال في مصنعه، ودفَع أجوراً أعلى من أجور منافسيه، والمفاجئ أن أرباحه كانت أكثر من المصانع الأخرى، ما حوله إلى رجل ثري للغاية.

تغيير الظروف من أجل إنسان أفضل

تزوج "أوين" من ابنة رجل ثري أسكتلندي يدعى "ديفيد ديل"، كان "ديل" يمتلك عدة مصانع للقطن في قرية تدعى "New Lanark".

ولأن "ديفيد ديل" أُعجب بتجربة "أوين" فسلمه إدارة المصانع بالكامل، "أوين" لم يكن مهتماً فقط بإدارة مشروع تجاري ناجح،  لكنه آمن أن شخصية الإنسان تشكلها الظروف. فالظروف الجيدة ستؤدي إلى إنتاج إنسان أفضل، فقرر تغيير ظروف قرية "New Lanark" بالكامل.

كان عدد سكان القرية حوالي 1500 شخص، بالإضافة إلى 500 طفل يعيشون في دار رعاية، لأن عوائلهم من الطبقة الفقيرة لم تستطع رعايتهم، كان الأطفال قد نُقلوا من دور الرعاية والجمعيات الخيرية في مدن "إدنبرة" و"غلاسكو"، وكانت الجريمة والرذيلة منتشرة في القرية وظروف السكن لا تطاق.
شرع "أوين" في اختبار أفكاره حول التعليم والبيئة الجيدة، من خلال إنشاء مصنع نموذجي ومركز تعليمي وقرية نموذجية جديدة في "New Lanark".

في ظل نظامه الجديد، كانت بنايات المصانع نظيفة وعمل الأطفال والنساء لساعات قصيرة نسبياً، مع توفير ساعة ونصف لتناول الوجبات، ولم يقبل بتوظيف الأطفال دون سن 10 أعوام.

وقدم للعمال منازل لائقة، وأسس نظام صرف صحي جديداً للقرية، وافتتح متجراً لأهل القرية يمكنهم فيه شراء سلع ذات جودة عالية بسعر التكلفة، وجعل بيع الكحول تحت إشراف صارم، وأعطى المكافآت على النظافة والسلوك الجيد، وشجع الناس على عادات النظام والنظافة والاقتصاد.

مشاريع أوين لتدريب الكبار وتعليم الأطفال السابقة لعصرها

كان حجر الزاوية لمشروع "أوين" هو "معهد تكوين الشخصية"، وهو مبنى ضخم إلى جانبه بناية كبيرة أصبحت مدرسة للأطفال، كان المعهد يقدم التعليم والترفيه مجاناً، ومزوداً بنوافذ كبيرة تزيد من الضوء الطبيعي إلى الحد الأقصى، وتوفر غرفاً مشرقة وهواء نقياً.

قصة نجاح - سيرة ذاتية - العمل
معهد تكوين الشخصية في نيو لامارك\shutterstock


قدم المعهد دروساً لتعلم الموسيقى والفنون للكبار والصغار، وأماكن لتناول الطعام المجاني ومكتبة كبيرة، لأن "أوين" كان يعتقد أن التعليم يمكن أن يقود الإنسان إلى أن يصبح شخصاً أفضل، ويصبح قادراً على تغيير مجتمعه، لذلك حرص على توفير التعليم للجميع. 
وكان يرى أن التعليم يختلف عن المعلومات، ويجب أن يعزز التعليم المُثل والقيم العليا وليس فقط حفظ المعلومات العامة عن ظهر قلب. 
أما المدرسة المجاورة للمعهد فقد استقبلت الأطفال من سن 3 إلى 10 سنوات، وكان هدف المدرسة هو تعليم الأطفال العادات والتصرفات الجيدة، وكانت طريقة التدريس سابقة لعصرها كثيراً، ولم تكن الطريقة التقليدية للتعلم عن طريق الحفظ، ولكن عن طريق إدخال ألعاب الذكاء والأنشطة المرحة في التعليم.
لذا وضع "أوين" مبادئ أساسية يجب اتباعها:
1- لا ينبغي أبداً ضرب الأطفال؛ وينبغي دائماً التعامل معهم بلطف وإرشادهم إلى إسعاد بعضهم البعض.
2- أصر أوين على أنه يجب تعليم الأطفال باستخدام "الوسائل البصرية" ورأى أنه لا ينبغي استخدام الكتب للأطفال دون سن العاشرة.
3- كان الرقص والموسيقى والنحت والرسم جزءاً أساسياً من التعليم، وقال أوين إن أطفال مدرسته كانوا "أسعد البشر الذين رآهم على الإطلاق".
أُعجب الكثير من السياسيين والأثرياء بتجربة المدرسة والمعهد وزارها الكثير ومنهم قيصر روسيا في ذلك الوقت.

 أصبح المعهد اليوم ضمن "تراث اليونسكو"، وأعيد ترميمه عام 1989، ولا تزال لليوم غرف الرسم والموسيقيين مستخدمة للأغراض الترفيهية والتعليمية، بما في ذلك الحفلات الموسيقية والمؤتمرات والفعاليات وحفلات الزفاف.

كل تلك التغييرات لم تلاق قبولاً لدى سكان القرية والعمال في البداية، لأنهم لم يكونوا مقتنعين أنه يفعل ذلك بدون مقابل أو بسبب حبه للخير.

 لكنه كسب ثقتهم وأصبح أكثر شعبية في عام 1806، عندما توقفت مطاحن الشعير في القرية عن العمل لمدة 4 أشهر، بسبب حظر الكحول في الولايات المتحدة التي كانت المستورد الأكبر لما تنتجه تلك المطاحن، لكنه دفع للعمال أجورهم كاملة خلال تلك الفترة.

محاولة إصلاح أحوال الأطفال في كل مصانع بريطانيا

حاول "أوين" إقناع أحد أصدقائه "السير روبرت بيل"  بتقديم خطة للبرلمان البريطاني لإصلاح الظروف في جميع المصانع، ودعا إلى اجتماع للمصنعين في "غلاسكو" عام 1815، واقترح إجراء للحد من ساعات عمل الأطفال، لكن لا أحد من أصحاب المصانع وافق على مقترحه.

قصة نجاح - سيرة ذاتية - العمل
طفل يعمل في أحد المصانع \shutterstock

ذهب "أوين" إلى لندن ليقدم مقترحاته للحكومة و"مجلس العموم"، وافق المجلس على تعيين لجنة للتحقيق في ظروف توظيف الأطفال في المطاحن، لكن أصحاب المصانع حاولوا تشويه سمعة "أوين" واتهموه بأنه استخدم لغة تحريضية للتخلص من المنافسين.
وبعد التحقيقات والمباحثات استسلمت اللجنة التي شكلها "مجلس العموم" لرغبات أصحاب المصانع، وقررت اللجنة إبقاء الظروف في المصانع كما هي.
شعر أوين بالإحباط  فقرر السفر إلى الولايات المتحدة وإنشاء مدينته الفاضلة وفرض قوانينه الخاصة هناك، وسلم إدارة قرية "New Lanark" إلى أحد أصدقائه.


بداية جديدة وتحول الحلم إلى كابوس

انتقل أوين إلى الولايات المتحدة عام 1825 وهناك اشترى بلدة صغيرة مهجورة في ولاية "إنديانا"، مقابل 150 ألف دولار أمريكي (ما يعادل 4 ملايين دولار اليوم)، وأطلق عليها اسم "New Harmony" أو "التناغم الجديد". 

قصة نجاح - سيرة ذاتية - العمل
مدينة نيو هارموني ولا تزال المباني موجود لغاية اليوم\Wikimedia Commons

 وبدأ أوين يدعو الجميع للانضمام إلى مجتمعه "المثالي"، اجتذبت قريته في البداية حوالي 1000 من المتحمسين الذين سمعوا بتجارب أوين السابقة في أسكتلندا وإنجلترا، وكان الكثير منهم من الشخصيات المرموقة في المجتمع من علماء في مختلف المجالات والمعلمين والفنانين.

لكن المشاكل بدأت بالظهور في هذا المجتمع "المثالي الجديد"، كان "أوين" مشغولاً كثيرا بالسفر في مدن الولايات المتحدة للترويج لأفكاره والبحث عن شركاء وأثرياء ليطبقوا الفكرة نفسها، لذلك ترك سكان "New Harmony" ليدبروا شؤونهم بأنفسهم، وهم لم تكن لديهم الخبرة الكافية.

المشكلة الثانية أن الفكرة اجتذبت الكثير من الكسالى الذين وجدوا في قرية أوين المكان المثالي لبذل أقل مقدار من الجهد والحصول على أكبر قدر من الفائدة، فبدأت النزاعات والخلافات بين سكان البلدة من الذين عملوا بجد وبين أولئك الكسالى.

بعد عامين فقط فشل المجتمع الجديد اقتصادياً ولم تستطع المصانع فيه تحقيق الأرباح، فكانت التكلفة لا تغطي نفقات ومصاريف الرعاية والأشياء المجانية التي وفرها "أوين" للسكان، الأمر الذي استنزف ثروته التي جمعها خلال سنوات حياته، وهجر الجميع بلدته.

عاد "أوين" الى بريطانيا ولكنه لم يتخلّ عن أفكاره، وكان يعتقد أن سبب الفشل أن المجتمع لم يكن مستعداً بعد، وظل يدافع عن أفكاره بتوفير الرعاية الصحية والتعليم المجاني للجميع.

 توفي أوين عام 1858 تاركاً وراءه إرثاً من الأعمال الخيرية، وقوانين كانت مبنية على أفكاره مثل الرعاية الاجتماعية، والإجازة المدفوعة الأجر وحماية الأطفال من ظروف العمالة القاسية، بالإضافة لنظام الساعات الـ8 للعمل الذي تتبعه أغلب دول العالم. 

أما بلدة "New Harmony"، فهي لا تزال موجودة، ولكنها مجرد وجهة سياحية يمكن زيارتها والتعرف من خلالها على حلم رجل أَحب البشرية وكان يظن أنه يمكن أن يصنع "مجتمعاً مثالياً".

تحميل المزيد