هذه الشخصية ليست استثنائية في الحضارة الإسلامية التي ظلّت سائدة طيلة قرون، فعلى خلاف غيرها من الحضارات التي عادةً ما يبرز فيها فلاسفة من دينها فقط، كانت الحضارة الإسلامية بيئة خصبة لفلاسفةٍ وعلماءٍ غير مسلمين، وأحد أشهر هؤلاء كان موسى بن ميمون.
وكما يُعتبر موسى بن ميمون ابن الحضارة الإسلامية في سياقها العلمي العام، فهو أيضاً أحد "الإصلاحيين" اليهود، الذين اشتهرت عنه مقولة في الأوساط اليهودية تقول: "بين موسى وموسى لم يقم مثل موسى". أي أنه منذ النبي موسى (عليه السلام) لم يكن هناك شخصية جديرة بالاحترام والتقدير مثل موسى بن ميمون.
وهو رغم ذلك لديه تجربة مثيرة، فهو لم يكن فقط فيلسوفاً وطبيباً يهودياً في الحضارة الإسلامية، وفي الدولة الإسلامية.. بل كان طبيباً خاصاً للسلطان صلاح الدين الأيوبي! بل وربما مستشاراً سياسياً في بعض الأحيان.
من الأندلس إلى المغرب بسبب الاضطهاد المفاجئ لليهود!
ولد موسى في قرطبة، حاضرة الدولة الإسلامية في الأندلس عام 1135. وتحت حكم دولة المرابطين تمتّع اليهود بحرية ممارسة دينهم وطقوسهم اليهوديّة. وكان أبوه قاضياً في المحاكم الكنسية، لكنّ قرطبة سقطت في يد دولةٍ مسلمة أخرى ولكنّها دولة أكثر تعصباً، هي دولة الموحدين، التي جاءت من المغرب وسيطرت الأندلس.
كان على اليهود إما اعتناق الإسلام وإما مغادرة الأندلس، وهكذا غادرت أسرته إلى مدينة فاس المغربية عام 1159، وهناك درس بجامعة القرويين.
تظاهرت عائلة موسى بن ميمون بالإسلام في فاس أيضاً، كغيرها من الأسر اليهودية، فقد كان محظوراً عليهم نفس الشيء: محظور عليهم أن يكونوا يهوداً. ويحكي ابن ميمون أنهم كانوا لا يصلون ولا يؤدون طقوس الإسلام كاملةً ولكن وجب عليهم التلفُّظ ببعض العبارات الإسلامية التي تدل على اعتناقهم الإسلام لا أكثر. لتحاشي غضب المتعصّبين في الدولة.
وبعد حوالي 5 سنوات في المغرب، هاجرت عائلته مرة أخرى إلى فلسطين عام 1165 ومنها إلى القاهرة التي استقرّ فيها منذ ذلك الحين وحتى وفاته عام 1204.
عندما وصل إلى مصر أعلن ابن ميمون يهوديته. وقد طالب بعض المتعصبين من السلطات أن يقتلوه بتهمة "الردة عن الإسلام"، إلا أن القاضي الفاضل وزير صلاح الدين رفض ذلك قائلاً: "الرجل الذي أرغم على الإسلام ليس بمسلم، وبالتالي لا يمكن أن نعتبره مرتداً".
وبدأت رحلة موسى بن ميمون في مصر مع السلطان صلاح الدين الأيوبي.
طبيب صلاح الدين الأيوبي الخاص.. ومستشار سياسي أيضاً؟
في مصر، تفرّغ موسى بن ميمون للعلم بينما كان أخوه الأصغر تاجراً، ومتكفلاً بإعالة العائلة مادياً. وفي عام 1170 غرقت سفينة أخيه المتجهة إلى الهند وتوفي أخاه، وقد أثّر هذا في موسى بن ميمون كثيراً، وظلّ حزيناً ومريضاً عدة شهور.
وبوفاة أخيه اضطر ابن ميمون للبحث عن مصدر آخر للعيش، فبدأ مزاولة الطب، رافضاً أن يتكسّب من عمله في تعليم التوراة والتعاليم اليهودية.
وفي عام 1177 عيّن موسى بن ميمون رئيساً للطائفة اليهودية في مصر. وهنا بدأ في محاولاته رفع مستوى اليهود دينياً وعلمياً.
كان ابن ميمون عقلانياً، وأراد إبطال العادات الخاطئة والخرافات المنتشرة بين الطائفة اليهودية. وكان يعتبر بعض هذه العادات وثنية بينما يجب أن تظلّ الديانة اليهودية ديانة توحيدية. وهكذا بدأ في تنقية التوصيات الدينية اليهودية من الخرافات وصبغها بصبغة عقلانية، وبسبب هذا عارضه الكثير من رجال الدين اليهود وعلمائه.
ظلّ ابن ميمون يعمل طبيباً ليعيل نفسه، لكنّه اشتهر جداً عندما أصبح طبيباً في البلاط السلطاني، عندما قرّر القاضي الفاضل – وزير صلاح الدين – أن يوفِّر له عملاً في دار السلطان، حيث أصبح طبيباً لصلاح الدين ولمن يرث العرش من بعده حتى وفاته.
لكنّ وجود ابن ميمون في قصر السلطان لم يكن فقط لبراعته الطبية وفلسفته، فهناك مصادر تتحدّث عن استمالته من قبل القصر لحنكته السياسية. فقد كان موسى بن ميمون شخصيةً مقبولة لدى اليهود في الأقطار المختلفة.
فقد كان اليمن مثلاً تحت حكم الدولة الأيوبية، وكان وجود شخصية مثل ابن ميمون في قصر السلطان عاملاً مهدئاً لتمردات اليهود في اليمن، كما أنّ وجود شخصية مثله في القصر تسهم في تسهيل بعض أمور الطائفة اليهودية داخل الدولة. يعني ببساطة أنّ القصر استمال موسى بن ميمون ليس فقط لبراعته الطبية وإنما لحنكته السياسية وقبوله لدى طائفة اليهود في أغلب أقطار الدولة.
وبسبب وجود ابن ميمون وقربه من صلاح الدين الأيوبي، فقد سمح السلطان لليهود بالإقامة في فلسطين والقدس بعد تحريرها من الغزو الصليبي، وقد كانت إقامة اليهود محظورة من قبل الصليبيين وأتاحها لهم صلاح الدين الأيوبي.
ظلّ موسى بن ميمون على مكانته تلك في قصر السلطان، حتى توفي عام 1204، أي بعد وفاة صلاح الدين بحوالي 11 عاماً.
توفي في القاهرة، لكنّ جثته حُملت إلى مدينة طبرية في فلسطين ليدفن هناك وفق وصيته. وفي القرن الثاني عشر الميلادي تمّ بناء معبد موسى بن ميمون في القاهرة. في نفس مكان إقامته عندما وصل القاهرة. وهو أحد أعرق وأهم المعابد اليهودية في العالم.
ويقع المعبد الآن في حارة اليهود في القاهرة القديمة، وقد أعيد تجديد المعبد أكثر من مرة في أعوام 1887 وعام 1925 وعام 1967.