كانت الإمبراطورية الرومانية إلى جانب الإمبراطورية الفارسية أقوى دولتين خلال القرون الستة السابقة واللاحقة لميلاد المسيح، وخلال أكثر من 10 قرون كان الصراع بينهما. لن نخوض في هذا التقرير في تفاصيل الصراع بينهما، لكنّنا سنحكي لكم قصة مثيرة عن وصول فتاةٍ جميلة من حمص السورية إلى قمّة السلطة في الإمبراطورية الرومانية، لتكون حاكمة روما لعدّة سنوات.
من شمال إفريقيا كانت بداية القصّة
وُلدت جوليا دومنا في مدينة حمص السورية عام 160 ويقال عام 170، كانت أسرتها سليلة العائلة المالكة في حمص وهي عائلة ثرية جداً وذات صلات سياسية كبيرة، وكان أبوها الكاهن الأكبر لإله مدينة حمص وهو إله الشمس المسمّى "إيل جبل" أو "إلاجبالوس".
في عام 185 عندما كانت جوليا دومنا في الخامسة عشرة من عمرها تزوّجت من قائدٍ عسكريّ روماني يدعى سبتيموس سيفيروس.
كان سبتيموس من شمال إفريقيا، وقد تولى العديد من المناصب الرفيعة في الإمبراطورية الرومانية، فحكم بلاد الغال (فرنسا) وصقلية والنمسا والمجر. لم ينجب سيفيروس من زوجته الأولى التي توفيت، ويقال إنه سمع عن امرأة من حمص لديها نبوؤة أنها ستتزوّج من ملك، وهكذا خطبها. بينما تقول بعض الروايات أنها كان في مهمة في منطقة سوريا الحالية وقابلها وأعجب بها فتزوجها.
لم يطل الأمر كثيراً بسيفيروس، حتى أصبح إمبراطوراً لروما عام 193. لكن هذا كان عبر مسيرةٍ من الحروب والدم.
عام الأباطرة الخمسة
في رأس السنة عام 192 قتل الإمبراطور الروماني كومودس، لتدخل الإمبراطورية الرومانية في حربٍ أهليّة طيلة عام، هذا العام سمِّي عام الأباطرة الخمسة، إذ كان كل قائدٍ من هؤلاء الخمسة يطالب بالحكم لنفسه.
كانت الإمبراطورية الرومانية قد دخلت في دواماتٍ من الحروب الأهلية منذ زمنٍ طويل. وكان معتاداً أن يُغتال الإمبراطور ليطالب قاتله بالحكم من بعده، وهكذا دواليك.
على العكس من إمبراطوريات ذلك الزمن التي شهدت ملوكاً يحكمون طيلة ثلاثة عقود على سبيل المثال، كان زعماء روما يحكمون لسنواتٍ معدودة أو لأشهرٍ معدودة، ليس بسبب الديمقراطية وإنما بسبب الحروب الأهلية وسلطة الجيش على الحكم.
كان سيفيروس أحد هؤلاء الأباطرة الخمسة الذين تصارعوا على الحكم. وهكذا استطاع سيفيروس ابن ليبيا أن يحكم روما بعدما خرج منتصراً من هذه الحرب الأهلية المدمرة. وإلى جانبه بالطبع، جوليا دومنا، ابنة حمص السورية.
كان سيفيروس قائداً محنكاً وسياسياً داهية، وهكذا استطاع – على غير عادةً هذا الزمان – أن يحكم الإمبراطورية الواسعة من عام 193 وحتى وفاته الطبيعية عام 211 (18 عاماً من الحكم). وبوفاته بدأت تعاسة جوليا دومنا.
جوليا دومنا.. أكثر إمبراطورة رومانية حصلت على ألقاب
إلى جانب زوجها القوي أسست جوليا دومنا سلالة حاكمة داخل الإمبراطورية الرومانية ستحكم طيلة 42 عاماً. كانت جوليا دومنا قد حازت ألقاباً كثيرة مثل "أمّ الوطن" و "أمّ الشيوخ" و"أمّ المعسكرات والجنود"، وغيرها الكثير من الألقاب حتّى ليقال إنها حصلت على ألقاب أكثر من أي إمبراطورةٍ أخرى في روما.
وربما يعود هذا إلى أن زوجها سيفيروس لم يكن الوحيد من أقربائها المباشرين الذين يحكمون الإمبراطورية الرومانية. فقد كانت أختها التي أخذتها معها إلى روما "جوليا ميسا" جدّة لإمبراطورين من حكام المستقبل. ولكن قبل هذا، كانت جوليا دومنا على موعدٍ آخر من السلطة بعد وفاة زوجها.
رزق الزوجين بابنهما الأول كركلا عام 188، ثمّ بعده بثلاث سنوات رزقا بابنهما الآخر غيتا. وما إن توفي الإمبراطور سيفيروس حتّى بدأ الصراع المحموم على السلطة بين الولدين، كركلا وغيتا، وبينهما كانت الأمّ تحاول أن تهدِّئ من نتائج هذا الصراع.
اعترف مجلس الشيوخ (كانت له سلطة شكلية) بولدي سيفيروس كركلا وغيتا إمبراطوريين معاً. لم يكن تقسيم السلطة أمراً غريباً في ذلك الوقت، فالكثير من الأباطرة شاركوا أبناءهم الحكم لتوطيد سلطتهم بعد وفاتهم. وقد سجّل التاريخ سابقة خيانة من ابنٍ لأبيه، في قصّة الإمبراطور فاليريان الذي أسرته الإمبراطورية الساسانية ورفض ابنه دفع الجزيرة لافتدائه لينفرد بالسلطة.
يمكنك القراءة عن قصة الإمبراطور فاليريان من هذه المادة.
وهكذا ظلّ الأخوان يحكمان لشهورٍ عديدة، لكنّ الصراع ارتفعت وتيرته إلى درجة هائلة، فقد طالب كركلا (الأخ الأكبر) أن تتوسّط للإصلاح بينه وبين أخيه الأصغر غيتا. وهكذا في مقرّ إقامة جوليا دومنا، كان على ابنيها أن يتصالحا، لكنّ ما حدث كان عكس ذلك.
أماً لإمبراطورين
فجأةً، وبينما غيتا جالساً في مقرّ إقامة أمّة انقضّ قادة جيش كركلا عليه وطعنوه أمام عينها، وسجّل المؤرخون أنها حاولت حمايته ما ترك لها جرحاً كبيراً في يدها.
وهكذا كان على جوليا دومنا التعامل مع ما فعله ابنها الأكبر، فهل تتخذ منه موقفاً وقد قتل أخوه؟ فربما سيقتلها أيضاً، وهل تترك السلطة التي اكتسبتها في عهد أبيهما الراحل سيفيروس وفي عهده هو وأخيه أيضاً؟ لا.
طمس كركلا وجود أخيه من أنحاء الإمبراطورية، وحرّم البكاء عليه أو رثائه، وهكذا تصرّفت جوليا دومنا دون أن تستطيع رثاء ابنها الأصغر غيتا. وبينما كركلا يطوّف بجيشه في حروب الإمبراطورية الرومانية اللامتناهية، ترك لأمّه كامل الشؤون الإدارية للإمبراطورية.
فهل كانت ستضحي بكلّ هذه السلطة لأجل رثاء ابنها الصغير؟ أو هل كان ابنها سيسمح لها بذلك؟ لا أحد يعرف، لكنّ المعروف أنها ظلت على قمة الهرم الإداري للإمبراطورية، بينما ابنها الأكبر كركلا هو القائد العسكري، إلى أن ثار عليه جنده وقتلوه عام 217، بعد أن حكم وحده (بدعم والدته) طيلة 6 سنوات.
كانت جوليا دومنا تدير شؤون الحكم الإدارية من مدينةٍ مشرقية قريبة إلى حمص، هي مدينة أنطاكية. وعندما قتل الجند ابنها كانت في أنطاكية، وليس هناك تحليل واحد بخصوص نهاية جوليا دومنا، فالبعض يقول أنها أرادت الانتحار جوعاً، بينما هناك رواية أخرى تقول إن الإمبراطور الجديد أبقى لها حاشيتها ووضعها المعنوي في الإمبراطورية، لكنها أرادت تدبير انقلاب عليه، وهنا عاقبها بالموت، ولكن غير معروف بالضبط كيف ماتت.
كانت جوليا دومنا مؤسسة سلالة الأباطرة السيفيرون مع زوجها سيبتيموس سيفيروس، وقد حكمت هذه السلاسة حتى عام 235. فبعدما قتل كركلا حكم القائد العسكري ماكرينوس طيلة 14 شهراً، حتى رتبت جوليا ميسا أخت جوليا دومنا بانقلاب باسم ابنها "إيل جبل" الذي حكم طيلة 4 سنوات، ثم حكم ابن خالته سيفيروس ألكسندر طيلة 13 عاماً من بعده، لينتهي حكم السلالة بوفاته عام 235.