في أكتوبر/تشرين الأول من عام 1960، فاجأ زعيمٌ سوفييتيٌ العالم، في نوبةٍ حقيقيةٍ من الغضب الجامح. إذ ضرب القائد السوفبيتي السابق نيكيتا خروتشوف بحذائه طاولةً في مقر الأمم المتحدة؛ اعتراضاً على خطابٍ ينتقد دولته. أو هكذا تقول القصة المشهورة.
هكذا أصبحت صورة خروتشوف الغاضب محمر الوجه في العالم صورةً للاتحاد السوفييتي. لكن الحقيقة أنه لم تُؤخذ قط أي صورة لحادثة ضرب الحذاء الشهيرة تلك، لذا فربما لا يكون الجزء الخاص بالغضب واحمرار الوجه صادقاً.
أصبحت تلك الصورة في نظر كثيرين انعكاساً للاتحاد السوفييتي آنذاك: غاضبٌ، وعنيف. وربما خطيرٌ بعض الشيء؛ بل متمادٍ قليلاً.
كانت الحرب الباردة مستعرةً في أوْجها حينئذٍ. وبالنسبة إلى الأمريكيين المصابين بفوبيا من الاتحاد السوفييتي، كانت صورة الرجل السوفييتي الغاضب، لا سيَّما زعيمٌ يتمتَّع بالجرأة الكافية ليستعمل حذاءه كمطرقة، صورةً مخيفةً بكل المقاييس. واستخدمها العالَم الغربي في الدعاية ضد السوفييت بنجاح.
لكن للأسف، حتى لو كنت عادةً تستمتع بالقصص الدرامية عن الحرب الباردة، فقد تكون حادثة الحذاء أقرب إلى الخيال من الحقيقة التاريخية. فبالنظر إلى الحقائق المُثبتة، نجد أن قصة خروتشوف وحذائه في الأمم المتحدة تشتهر لسبب رئيسي واحد: انعدام البرهان عليها، وفق ما نشره موقع HowStuffWorks الأمريكي.
القصة وراء القصة "المزيفة"؟
وقد أخذت تلك الحادثة حيزاً في دراسات الباحثين وأساتذة التاريخ. فيقول أنتون فيدياشين، أستاذ التاريخ بالجامعة الأمريكية في واشنطن، لموقع HowStuffWorks: "رأيي الشخصي أن القصة أمتع من أن تكون واقعية، ولو كانت قد حدثت، لكان لدينا مزيدٌ من الإثباتات والشهود، وغالباً مزيدٌ من الصور، لأن هذه الوقائع تَلفت نظر عدسات الكاميرات. لذا ففيما يتعلق بحادثة ضرب الحذاء، لا أظن أنها قد حدثت قط".
ولكنه يُتبع كلامه بأنه حتى لو لم تحدث تلك الحادثة، ففي الحقيقة كان يمكنها أن تحدث، في تلك الفترة من الحرب الباردة. كما أن تلك القصة، سواء كانت حقيقية أو غير حقيقية، تتماشى تماماً مع شخصية خروتشوف، وفقاً لفيدياشين.
جاءت بدايات القصة في أكتوبر/تشرين الأول عام 1960، عندما نشرت صحيفة The New York Times مقالاً عن جلسةٍ للأمم المتحدة كانت فوضويةً وجديرةً تماماً بالصفحات الأولى. وكان العنوان كالتالي: "جلسة صاخبة بالأمم المتحدة تنتهي مبكراً، لإيقاف مضايقات الشيوعيين". بينما أعلن العنوان الفرعي في غموض: "خروتشوف يضرب مكتباً بحذائه!".
ثم يوضِّح محرر الـ"نيويورك تايمز" بنجامين ويليس، كاتب القصة، تفاصيل القصة في أولى فقراتها:
"الأمم المتحدة، نيويورك، 12 أكتوبر/تشرين الأول.. لوَّح الزعيم خروتشوف بحذائه اليوم وضرب به سطح مكتبه، مضيفاً إلى قائمة الطرائف المطوَّلة التي يستفز بها الجمعية العامة".
وبحسب التقرير، فإن لورينزو سومولونغ، عضو الوفد الفلبيني، كان يتَّهم الاتحاد السوفييتي بـ"ابتلاع" أجزاء من أوروبا الشرقية حين اندلع غضب خروتشوف. وكان مرفقاً بالتقرير أيضاً صورة لخروتشوف، جالساً أمام مكتب الموفد الخاص به، وواضعاً على سطحه حذاءً بكل وضوح.
ومن الجدير بالملاحظة أن الصحيفة لم تكن لديها صورة له وهو ممسك بالحذاء، أو يضرب به.
خبير العلوم السياسية ويليام تاوبمان، الذي كتب أو حرر ثلاثة كتب على الأقل عن خروتشوف، وضمن ذلك سيرته الصادرة عام 2003، كتب مقالاً بالصحيفة نفسها عام 2003، احتوى على عدة مقابلاتٍ مع من كانوا حول خروتشوف في ذلك اليوم ورواياتهم لما حدث (أو في الحقيقة: لم يحدث).
بينما زعم صحفي آخر بالصحيفة نفسها، أن الواقعة لم تحدث قط. فيما قال أحد جنرالات المخابرات السوفييتية (KGB)، إنها قد حدثت بالفعل. وقال أحد موظفي الأمم المتحدة، إنها لم تحدث. لكن المترجم الشخصي لخروتشوف قال إنها حدثت. أما آخرون فقالوا لا.
وهكذا يمكنك فهم القصة التي اختلف حولها المحيطون بخروتشوف نفسه في لحظتها؛ بل لم يحسم السجل الرسمي للأمم المتحدة نفسها المسألة.
وقد نشرت لاحقاً مجلة Time صورةً للحادثة، إلا أنها كانت مفبركة. بينما تناول موقعُ PolitiFact التابع لمعهد Poynter للدراسات الإعلامية هذا الموضوع، لكنه وجد أن قصة ضرب الحذاء لم تحدث قط. وكذلك دحضت وسائل إعلامية أخرى القصة.
على الرغم من كل ذلك، فقد كان معروفاً عن خروتشوف أنَّه يهوي بقبضتيه على المنصات والمكاتب في بعض الأحيان أثناء الحديث. لكن في إحدى المقابلات أصرَّ مصوِّرٌ كان حاضراً وقت حادثة ضرب الحذاء المزعومة، على اعتقاده أن حذاءه لم يلمس الطاولة.
أستاذ التاريخ أنتون فيدياشين يعطينا تفسيراً آخر لهذه القصة. فهل ضرب خروتشوف مثلاً بقبضتيه في الأمم المتحدة؟ نعم، فهذا أمرٌ يتماشى مع شخصيته تماماً، ولأن تسجيل الأمم المتحدة لهذا الحدث موجود. لكنه لديه شعورٌ بأن حادثة الحذاء هذه كلها "اختلقتها عقولٌ واسعة الخيال وألسنةٌ تفوقها في الإبداع، وخلطتها بمسألة ضربه قبضتيه".
شخصية خروتشوف المثيرة
تولَّى خروتشوف مقاليد الحكم في الاتحاد السوفييتي عام 1953 بعد العهد الدموي لجوزيف ستالين، الذي ترك وراءه دولةً مختصمةً بالفعل مع أمريكا والكتلة الغربية، حليفتها في الحرب العالمية الثانية.
وكان الرأي العالمي على المحك للدولة التي توفِّر مساراً أفضل لشعبها: فهل يوفره الاتحاد السوفييتي والنظام الاشتراكي، أم توفره أمريكا والنظام الرأسمالي؟
بالنسبة إلى عديدٍ من الدول الناشئة الباحثة عن طريقٍ نحو العصرنة -الاشتراكية أو الرأسمالية- لم يكن الجواب واضحاً كما هو الآن في الغرب.
إذ إن خروتشوف كان يحسِّن من أوضاع دولته على وجه العموم، مخلِّصاً إياها من آثار الحقبة الستالينية المُرهقة، مطلقاً سراح السجناء، ومخففاً من قبضة الرقابة. وحتى في ذلك الوقت، كانت الصين تبرز باعتبارها مركز قوةٍ محتملاً بعد اعتناقها الشيوعية. وقد انتهت حرب أمريكا ضد الشيوعية بالتعادل في الحرب الكورية التي انتهت في عام 1953.
وفي عام 1957، أدهش السوفييت العالم بإطلاق أول قمرٍ صناعي أرضي، باسم Sputnik، وتبعته في 1961 أول بعثة فضائية مأهولة في التاريخ.
كان الصراع بين المعسكرين الشرقي السوفييتي والغربي الأمريكي-الأوروبي في أوْجه، فقد بدأت الحرب الباردة بينهما منذ 1947، ولم تنتهِ سوى إلا انهيار الاتحاد السوفييتي.
وهكذا كانت الفرصة سانحةً لظهور رجلٍ جريءٍ نصيرٍ للبسطاء مثل نيكيتا خروتشوف، القائد غير المتعلِّم الذي كان عرضةً لنوبات الغضب المفاجئة وكذلك العطف والدفء.
كان خروتشوف رجلاً غالباً ما يستميل حديثه العام شعبَه (أو جزءاً كبيراً منهم على الأقل)، وشخصاً كان مخلصاً في إيمانه بالاشتراكية، وشخصاً حريصاً على إظهار قوَّته وقوَّة الاتحاد السوفييتي للعالم.
كان مسرح خروتشوف هذه المرة هو خطابه في الأمم المتحدة.
سياق الحرب الباردة بين "العالَمَين"
اتخذت الحرب بين أمريكا (الكتلة الغربية) والاتحاد السوفييتي (الكتلة الشرقية) شكلاً جديداً، فبعدما انتصرا معاً على هتلر في الحرب العالمية الثانية، قسما العالم إلى مناطق نفوذ. كان تدخُّل كليهما في تلك المناطق محسوباً بدقة، إذ كانت بعض الدول حليفةً مباشرة لهذه الدولة أو تلك، بينما البعض الآخر على الحياد، والبعض الآخر تتأرجح مصالحه بينهما.
وهكذا، لم يتواجه السوفييت والأمريكان كثيراً على أرضٍ واحدة، أي لم يدخلا حرباً شاملةً بينهما، خصوصاً أن كليهما امتلك سلاحاً نووياً مدمراً، لكنهما دخلا في حروبٍ بالوكالة، أحياناً على أرض فيتنام وأحياناً على الأراضي الكوبية، وأحياناً في إفريقيا، بل أحياناً بالمنطقة العربية، خصوصاً في فترة الصراع العربي الإسرائيلي.
لكن تلك الحرب في الحقيقة لم تكن دوماً "باردة"، فقد تخللتها مراحل "ساخنة"، بل "ساخنة للغاية" كادت ربما تودي بنصف البشرية جمعاء. فكلا الطرفين يمتلك سلاحاً نووياً، وكان في بعض الأحداث على شفا استخدامه مباشرةً، لكن الأقدار تدخلت فمنعت هذه الحرب أو تلك.
نذكر لك فقط هنا مثالين فقط من هذه الأحداث. في عام 1962- بعد عامين فقط من حادثة خروتشوف التي ذكرناها- بدأ السوفييت بإنشاء قاعدة للسلاح النووي في دولة كوبا، الواقعة قرب الحدود الأمريكية الجنوبية الشرقية، التقطت طائرة تجسس أمريكية صوراً للقواعد، وبدأ التصعيد بين الطرفين، ولم ينتهِ الخطر العالمي إلا بالوصول إلى "منطقة وسط" بين العدوين اللدودين بإزالة صواريخ مشابهة لأمريكا من تركيا (على حدود الاتحاد السوفييتي).
وقبل هذه المغامرة السوفييتية، سبقتها مغامرة أمريكية؛ في محاولةٍ من الرئيس الأمريكي لإخضاع كوبا الواقعة على حدوده للسيطرة الأمريكية.
كانت العملية عبارة عن محاولة لتغيير نظام الحكم في كوبا، فبدلاً من فيديل كاسترو الموالي تماماً للاتحاد السوفييتي أرادت أمريكا أن تستبدل به بعض المتمردين الكوبيين.
وهكذا في يناير/كانون الثاني عام 1961، بدأت عملية "غزو خليج الخنازير"، شنت القوات الجوية الأمريكية هجوماً على القواعد الجوية الكوبية ثم اتبعتها بدعم غزوٍ بري للمتمردين.
تصدَّت القوات الكوبية لقوات المتمردين وقتلت منهم 100، وبعد 4 أيام من الأحداث كانت القصة قد انتهت بهزيمة المخطط الأمريكي. فقد امتنعت عن تقديم غطاء جوي مباشر أو دعم لوجيستي وسياسي مباشر للمتمردين؛ حتى لا يبدو أنه تدخُّل أمريكي، أو احتلال لكوبا، مما قد يثير حفيظة الاتحاد السوفييتي بالطبع، فيتدخل بشكل مباشر.وللقراءة أكثر عن الحرب الباردة، وكيف كانت الحياة البشرية كلها في بعض الأحداث مهدَّدة تماماً، اقرأ هذه المادة.