هذا الرجل الذي وُصِف بأنه "لعنة الرب" واسمه أتيلا الهوني، هو واحد من أشهر الشخصيات التاريخية سيئة السُّمعة نظراً لبلوغه أقصى درجات التوحُّش.
في القرن الخامس الميلادي فرض سيطرته على مساحةٍ شاسعةٍ من الأراضي وهدد الإمبراطورية الرومانية. غير أنّ القائد المُرعب هذا الذي رغب في أن يحكم العالم كلّه فشل في النهاية بتجسيد إنجازاته العسكرية على هيئة إمبراطوريةٍ ناجحة وصامدة، ورُغم ما وُصِف به أتيلا من أنه "جاء إلى هذا العالم لزعزعة الأمم"، سيرضخ في نهاية المطاف إلى الدبلوماسية مع الرومان.
فماذا تعرف عن هذا الرجل وعن سُمعته المُرعبة؟
يستكشف معنا المؤرخان مايلز راسل وجون مان حياة أتيلا الهوني والإرث الذي خلّفه في العالم، عبر تلك المادة المنشورة في مجلة History Extra البريطانية.
في البداية، من هو أتيلا الهوني؟
كان أتيلا الهوني حاكماً لشعوبٍ بدوية قديمة معروفة باسم "الهون" مُنذ عام 434 حتى عام 453 ميلادياً. وشعوب الهون هي شعوب آسيو-أوروبيّة، أصلها من آسيا الوسطى وهي مرتبطة بالعرق التركي الذي زحف من آسيا الوسطى لأوروبا. لكنها لا علاقة لها بتركيا الحالية، وإنّما بالعرق التركي في العموم المنتشر في آسيا وأوروبا منذ القرن الرابع الميلادي.
وقد كوّن الهون إمبراطوريةً ضخمة حازت أغلب أراضي روسيا الحالية ونصف أوروبا (الجزء الشرقي والشمالي منها). وكانت قوّة لا تنازعها قوّة في هذا الوقت، إلا أنها كانت قوةً قبليّة عسكرية وليست دولة متماسكة، ما أدّى إلى تفككها في النهاية.
وبالعودة إلى أتيلا الهوني، وهو أحد أشهر ملوك إمبراطورية الهون، فقد كان قائداً عسكرياً قوياً وسياسياً مُخضرماً، مُحافظاً على اتحادٍ مُتنوعٍ ومختلف من القبائل طيلة عقود. وكان من "ملوك الجريمة" الناجحين، إذ يبتز خصومه للحصول على الأموال بوحشيةٍ فاقت أي زعيم مافيا أتى من بعده، وفقاً لما يقوله مايلز راسل.
لكنا لا نعرف سوى القليل عن الرجل نفسه، نظراً لفشل شعوب الهون في كتابة نسختهم الخاصة من التاريخ. وقد لا يكون "أتيلا" اسمه الحقيقي، فقد يُترجم اسمه هكذا: "أت-يلا" أي (الأب الصغير)، وربما يُماثل في ذلك لقب "أتا-تورك" أي (أبو الأتراك) الذي أُطلق لاحقاً على مصطفى كمال باشا أول رئيس لتركيا الحديثة.
في المحصِّلة النهائية، وللحصول على معلوماتٍ حول حياة أتيلا الهوني يضطرّ المؤرِّخون للاعتماد على كتابات ألد أعدائه: الرومان الذين روّعهم لسنين طويلة.
تخلّص من شقيقه الأكبر ليُحكم سيطرته على الإمبراطورية!
وُلد أتيلا وشقيقه الأكبر بليدا لعائلة من طبقة "النُبلاء" الهونيين مطلع القرن الخامس، وهما ابني أخ الملك الهوني روجيلا.
كان الهون مُجتمعاً بدوياً من الرُعاة المقاتلين، وبدأت هجرتهم غرباً إلى الإمبراطورية الرومانية مُنذ القرن الرابع الميلادي. وأثناء نشأتهم، كان بليدا وأخيه الصغير أتيلا قد تعلَّما ركوب الخيل بمُجرد أن خطوا خُطواتهما الأولى.
كانا أيضاً قد دُربا ليكونا من الرُماة، نظراً لما اشتهر به الهون من قدرتهم على توجيه السهام بدقةٍ كبيرة من على ظهور الخيل في المعارك. وعُرِف أيضاً بأنه حظي بالعديد من الزوجات، فقد كان تعدد الزوجات يُساعد على توثيق أواصر قبائل الهون العشوائيّة.
عندما توفي الملك روجيلا عام 434، خلفه في الحكم ابني أخيه. ولا أحد يعلم إلى أيِّ مدى تَوَافَق الأخوان بليدا وأتيلا في الحكم، بيد أنَّهما على الأقل تحمَّلا بعضهما البعض لينجحا في حكم شعوب الهون سويًا لما يزيد على عقدٍ بأكمله.
لكن في عام 445، تُوفي بليدا فجأةً. ويُلمِح بعض المؤرِّخين إلى تورُّط أتيلا في موته. ورغم عدم وجود دليلٍ صريحٍ على صحة ذلك، فلا شك أن تخلُّصه من شقيقه في مُحاولة للاستيلاء على السلطة يتوافق مع ما سنعرفه لاحقاً عن شخصيته.
كيف حصل أتيلا الهوني على سُمعته المُرعبة؟
عرف أتيلا الهوني باعتباره واحداً من أسوأ الشخصيات في التاريخ، فقد حصل على ألقاب مثل "الرجل الشبح" و"لعنة الرب". وعرف أيضاً في التأريخ الروماني باعتباره معبراً عن الوحشية المتجسّدة في صورة إنسان، والأكثر خِسة من بين البرابرة الذين دمروا بُنيان الإمبراطورية الرومانية المُتداعية في مُنتصف القرن الخامس.
بيد أنه بالنظر إلى ما حقَّقه يصعب فهم السبب وراء تلك الصورة المتخيَّلة عنه، وفقاً لما يقوله جون مان. إذ كانت إمبراطوريته في أوجها لمدة ثماني سنواتٍ فقط، ولم تشتمل على أكثر من بضعة فدادين من الأراضي الرومانية، لتتلاشى فجأة بعد وفاته عام 453. لقد كان في النهاية فاشلاً، فما السبب وراء سُمعته المُرعبة؟
يكمن جزء من الجواب في العناصر الأساسية وراء صعود أتيلا. إذ ظهرت شعوب الهون من غياهب النسيان على أعتاب آسيا الوُسطى في القرن الرابع. ويُحتمل أن أسلافهم كانوا شعباً يُدعى شيونغنو -الهونو في اللغة المُنغولية- ممن حكموا إمبراطورية ضخمة في منغوليا لمدة 300 عام، إلى أن فرَّقت الصين شملهم في القرن الثاني الميلادي.
وفي عام 378 انضموا إلى القوطيين (أوروبيون شرقيون وشماليون) لتدمير الجيش الروماني في مدينة أدريانوبل (المعروفة حالياً باسم مدينة أدرنة في تُركيا).
كانت أيام مجد روما قد ولَّت بالفعل منذ زمنٍ طويل. وطيلة قرنٍ من الزمان، كانت الإمبراطورية تتداعى. إذ كانت الخلافات بين نصفي الإمبراطورية، الغربي والشرقي (روما والقسطنطينية)، في تزايدٍ مُستمرٍ منذ أنشأ قسطنطين العظيم مدينة القُسطنطينية -روما الجديدة- عام 330.
اتّسعت الفجوة بعدما أضحى لكلِ نصفٍ من الإمبراطورية إمبراطوره الخاص في عام 364. ولم تكن الروابط الأُسرية والتاريخية بين شقي الإمبراطورية كافية للدفاع عنها ضد تهديدات القبائل الجرمانية التي كانت تُحاصرهم. وتصاعدت التهديدات بعد أن خرجت شعوب الهون هي الأخرى بأصولهم التُركية المُختلفة للغاية، ممّا تُعرف الآن بدولة أوكرانيا.
قادتهم مهاراتهم إلى الدولة التي تُعرف حالياً باسم المجر. وقد تحيَّن أتيلا الهوني الفرصة المُناسبة وقتل أخيه وشريكه في الحكم بليدا ليحظى بالسلطة المُطلقة في عام 444 أو 445.
وسُرعان ما تعاون مع قبائل أخرى بوصفهم حُلفاء، مما سمح له بنشر قواتٍ لم يرَ أحدٌ مثيلاً لها من قبل. إذ تزوَّد مُحاربوه من الفُرسان بسلاح المُشاة ومُعدات الحصار.
إلى أي مدى كانت إمبراطورية أتيلا الهوني ضخمة؟
بحلول مُنتصف القرن الخامس، كان أتيلا قد أنشأ إمبراطوريةً امتدَّت من دول البلطيق (نواحي ليتوانيا ولاتفيا) إلى منطقة البلقان (ألبانيا وصربيا وشمال تركيا)، ومن نهر الراين في النمسا إلى البحر الأسود في أوكرانيا.
ولاحقاً من مقره الرئيسي في جنوب المجر، شنَّ هجماتٍ واسعة النطاق على المناطق الشرقية والغربية من روما في أربع حملات رئيسية، فضلاً عن العديد من الحملات الثانوية.
غير أنه في واقع الأمر، لم تكن هذه الإمبراطورية الهائلة أكثر من إئتلافٍ مُتخلخل من القبائل التي ارتبطت سويًا بفضل عبقرية أتيلا وبراعته العسكرية، حسبما يقول مايلز راسل.
عندما قابله مبعوث إمبراطور القُسطنطينية وجهاً لوجه لاحظ أنه "كان مُستشاراً حكيماً للغاية، رحيماً مع من التمسوا مشورته، ومُخلصاً لمن تقبلهم كأصدقاء".
وفي واقع الأمر، كان سخياً للغاية مع داعميه لدرجة أن كثيرين منهم وجدوا أنّ الحياة مع الهون أفضل من الحياة في الإمبراطورية الرومانية التي كانت متقدمة مقارنةً بالهون. فهم لم يعرفوا فيها الفساد والظلم وفرض الضرائب كما عند الرومان.
سرعان ما اكتشف الهون إمكانية سلب مبالغٍ نقدية ضخمة من الإمبراطورية الرومانية من خلال التهديدات المُباشرة والضمنية فحسب. وخلال القرن الخامس كان الإمبراطور الروماني الشرقي ثيودوسيوس الثاني قد دفع للهون 158 كغم من الذهب سنوياً فقط ليبقى بعيداً هجماتهم.
وبحلول عام 442 زادت هذه الكمية حتى بلغت نحو 453 كغم ذهباً خالصاً. وعندما رفض ثيودوسيوس الدفع في عام 447، اصطحب أتيلا جيشه وتوجَّه مُباشرة إلى بلاد البلقان وشرع في حرق المُدن. وسُرعان ما أعلن ثيودوسيوس استسلامه ووافق فوراً على تسوية المُتأخرات واستئناف الدفع، ليرفع أتيلا الجزية السنوية إلى 952 كغم من الذهب الخالص.
ومن الواضح أن الملك الهوني كان رجلاً لا يمكن الاستخفاف به!
انطلاقاً من وعي أتيلا الهوني بالتأثير المُحتمل لرفاهيات وبذخ الحياة الرومانية على شعبه البدائيّ، فَرَضَ رقابةً مُشددة على جميع التحركات عبر الحدود. وأصدر مرسوماً يقضي بمنع أيّ هوني من الاستقرار داخل حدود العالم الروماني ولا الخدمة في الجيش الروماني، وأن تُسلّمه الدولة الرومانية الخانعة جميع "الهاربين" لتلقِّي العقاب.
وبإصداره تعليماتٍ إلى الإمبراطور ثيودوسيوس بتخصيص أرضٍ خلاء على طول الحدود بينهما، تمكن أتيلا الهوني من أن يبعد عن شعبه أي شكل من أشكال التواصل المُباشر مع الرومان.
لاحظ مبعوث الإمبراطور عند أتيلا بساطته. فبعد إبقاء المبعوث مُنتظراً عدة الأيام، لاحظ أنّ السُفراء كانوا يُدعون إلى مأدبة طعام في القاعة الرئيسية. وحينها يجلس أتيلا، الذي يرتدي ثياباً مُتواضعة لا زخرفة فيها، على كُرسيه العالي مُترئساً رفقته. ليحظي جميع الضيوف بوجبة فاخرة، تقُدّم لهم على طبقٍ من فضة. غير أن أتيلا الذي كان على وعيٍٍ تامٍ بالطبيعة المسرحية للوليمة "لم يأكل سوى اللحم المُقدّم على طبقٍ خشبيٍّ بسيط". وكان كأسه أيضاً من الخشب، في حين تناول زواره الشراب في كؤوسٍ من الذهب.
هل كان طموحه شخصياً أم ضرورة سياسية؟
استناداً إلى الحقائق القليلة التي يُمكننا إثباتها يتضح لنا شيءٌ واحد: هو أنّنا نتعامل مع شخصية استثنائية تأسر الألباب وفقاً لما يقوله جون مان. فهو مدفوعٌ بطموحٍ هائل وإدمانٍ على السلب وتصيُّد الغنائم، إذ سعى أتيلا إلى تحقيق ما تعدى كثيراً حدود استطاعته.
بعزمه على السيطرة على أكبر قدر ممكن من العالم، قاده طموحه إلى المُخاطرة بكل شيء من أجل التصدي للصعوبات الجمة أمام هذا الطموح.
ففي عام 447، وصل أسوار القُسطنطينية الشاهقة والمنيعة، آملاً ربما في الاستفادة من الضرر الذي أُلحِق بها جراء هزةٍ أرضيةٍ حلَّت بها. لكنّ الأوان كان قد فات، فبمجرد وصوله هناك كانت أسوار المدينة قد حُصِنت بالفعل، فعاد إلى بلاده.
لكنّ الأدلة التاريخية تشير إلى أنّ طموحه لم ينبع فقط من هدفٍ شخصيّ بتوسيع دائرة حكمه فقط. بل كان ضرورةً سياسية، إذ كان بحاجةٍ إلى السلب والنهب لينال رضا زُعماء قبائله المُتحفِّزين دائماً. وكان ذلك يعني في البداية الغارات، ثم الحرب، وأخيراً غزو الأراضي على نطاقٍ كبير لتوسيع إمبراطوريته.
لكنّ طبيعة التوسُّع تلك تفترض مهاراتِ حكمٍ وإدارة مختلفين عن هذه المهارات الموجودة عند الهون. إذ ليحكموا الرومان فعلى الهون أن يتعلموا فنون الإدارة وفرض الضرائب وحفظ السجلات، وغيرها. بينما ليس أمامنا الآن أبسط شئ من هذه الفنون، وهو الوثائق التاريخية.
وفي عام 450 قرّر أتيلا الهوني أن يخوض مغامرةً من طرازٍ خاص: أن يغزو روما!
لهذا الغزو قصة مثيرة، وهو أنّ هونوريا، شقيقة الإمبراطور فالنتينيان الثالث، كانت امرأة شابة وطموحة تغار من أخيها الإمبراطور، فهي وإن امتلكت غُرفها وحاشيتها الخاصة، لم تكن لها سلطة فعلية.
ونظراً لضجرها من حياة الثراء التي عاشتها، أقامت علاقة عاطفية مع أمين خزانتها. اكتُشفت العلاقة الغرامية، وأُعدِم أمين الخزانة، وخُطِبت هونوريا إلى قُنصلٍ ثري. فقررت أن تنتقم من أخيها وتستحوذ وحدها على السلطة.
وبعلمها بمُخططات أتيلا لغزو البلاد، أرسلت أحد خدّامها المُخلصين إلى أتيلا، طالبةً منه أن ينقذها من زيجةٍ بغيضة ووعدته بالأموال. وحمل إليه خادمها خاتم زواجها إظهاراً لحسن النية، ليعني هذا ضمنا استعدادها لتكون زوجةً لأتيلا.
اكتُشِفت أفعال هونوريا، ثم قُطع رأس خادمها بمجرد عودته من عند أتيلا.
ما الذي حدث بعد ذلك؟
في هذه الأثناء كان أتيلا يستعدّ للغزو، وتوجب عليه التحرك سريعاً لإحباط هجومٍ من قبل مدينة القُسطنطينية، ووجد عُذراً مثالياً في عرض أخت الإمبراطور هونوريا الشابّة.
أرسل أتيلا مجموعةً من الرسائل إلى فالنتينيان ضُمِّنت فيها مطالب أكثر جرأة. فقد طالب في إحدى الرسائل بأن تكون هونوريا شريكةً في حكم الإمبراطورية، وفي رسالة أخرى طالب فالنتينيان بتسليم نصف مملكته إلى هونوريا مهراً لها، أما المبعوث الثالث فقد نقل هذه العبارات المُهينة: يأمرك سيدي، من خلالنا، أن تُعد قصرك له.
رفض فالنتينيان هذه المطالب، مانحاً بذلك أتيلا ذريعةً للهجوم.
وفي ربيع عام 451 عَبَر أتيلا نهر الراين في مُقدمة جيشٍ ضخم. كانت عادة أتيلا هي الابتزاز غير المباشر لكنّه غيرها هذه المرة إلى التدخُّل العسكري المباشر. ودوافع ذلك غير واضحة حتى الآن. فربما يرجع ذلك إلى أنّ بقاءه في السلطة تطلب منه أن يُظهر قوته العسكرية لقادته.
ومن ناحيةٍ أخرى، ربما يرجع ذلك إلى شعوره بأن الإمبراطورية الرومانية الغربية لم تُقدّم له احتراماً أو (ذهباً) كافياً. ويروي لنا التاريخ أن الحافز كان رسالة أخت الإمبراطور هونوريا. وبغض النظر عن السبب الحقيقي، أصبح الهون الآن بداخل الإمبراطورية الرومانية يحرقون وينهبون ويقتلون أعداداً غفيرة من المدنيين.
قطع جيش أتيلا ثُلثي المسافة عبر فرنسا عندما أوقفته قواتٌ رومانية وقوطية مُشتركة. وبحلول ذلك الوقت كان جيش أتيلا مُجهداً بدرجة تُعيقه عن القتال. تقهقر الجيش إلى أن اضطر لخوض المعركة.
وفي صباح 20 من يونيو/حزيران عام 451، اشتبك الطرفان في شمال شرق فرنسا. ومات أكثر من 160 ألف شخص على الجانبين، ويُشير المؤرخ الروماني يوردانس إلى أنّ الميادين كانت مُكدسة بأجساد الموتى، وأنّ الأنهار كانت تفيض بالدماء. وكان الرومان مُوشكين على خسارة المعركة، بيد أن الهون هم من هُزِموا فيها في النهاية.
أثناء الخسارة كان أتيلا يخطط للتضحية بنفسه، عندما سمح له خصمه القائد الروماني العظيم أتيوس بالذهاب.
لم فعل ذلك؟ رُبما لأنه شعر أنّه قد يستفيد منه رُغم كل شيء. فربما خشي أن سقوط أتيلا سيعني عودة القوط الغربيين، أعداء روما فيما مضى وحُلفائها الآن، للظهور على الساحة. لذا تخلص من كلٍّ منهما، فأعاد القوطيين مرة أخرى إلى وطنهم في جنوب غرب فرنسا، وأتيلا إلى المجر.
وكان السماح لأتيلا بالذهاب أفدح خطأ. ففي العام التالي، عاد أتيلا مُصطحباً جيشاً أضخم، وهاجم شمال إيطاليا مستهدفاً روما نفسها. وإذ بالهون يستولون على الكثير من المدن في وادي بو، لكنّ المرض والمجاعة كانا السبب وراء إيقافهم لا الهزيمة العسكرية، ويعودون على إثر ذلك إلى المجر للمرة الأخيرة.
وافق الإمبراطور على كل مطالب أتيلا الهوني دون شروط. ووعد بتزويجه هونوريا على أن يُقدم لها مهراً من الذهب. ومن ناحية أتيلا فقد كان مُتشوقاً أيضاً إلى مُغادرة إيطاليا، ليس بسبب الخسائر الفادحة التي تكبدها نتيجة الحملة (حيث نقص الطعام وانتشرت الأمراض) فقط، ولكن أيضاً لأن جيشه كان مُوشكاً على التفكك.
هكذا مات أتيلا الهوني الذي روّع العالم!
كان الانسحاب من إيطاليا هو بداية النهاية بالنسبة إلى أتيلا. ففي عام 453، بعد انسحابه من إيطاليا بفترةٍ وجيزة، اتخذ لنفسه زوجةً جديدة لتُضاف إلى قائمة زوجاته الطويلة.
كان اسمها إيلديكو، وكانت على الأرجح أميرةً جرمانية. أُصيب أتيلا بنوبةٍ قلبية في ليلة زواجه بها عندما "استسلم لجُرعة زائدة من المُتعة"، وفقاً لما يُخبرنا به المؤرخ القوطي يوردانس.
في الصباح وجدته حاشيته ميتاً، وقد جلست إيلديكو إلى جانبه تنتحب خلف غطاء رأسها. ويُشير يوردانس إلى حدوث نزيف داخلي يبدو أنه ملأ رئتي الملك وأغرقه.
وتُشير قصص أخرى متداولة إلى وفاته إثر نوبة من الثمالة، أو جراء أزمة قلبية نتجت عن الإفراط في النشاط الجنسي، أو أن يكون قد قُتل بيدي إيلديكو نفسها.
ولكن هُناك نظرية بديلة حول موته. إذ يقول مايلز راسل: بالنظر إلى ما اشتهر به أتيلا من اعتدال، على الأقل فيما يتعلق بتناول المشروبات الكحولية، فمن المُرجَّح أنه تعرّض للاغتيال.
حرمت وفاة أتيلا شعوب الهون من قائدٍ عظيمٍ ولامع. وفي غضون سنواتٍ قليلة، تفكَّكت إمبراطوريتهم. صحيحٌ أنها لم تتجاوز كونها ولايةً عنيفة وقصيرة الأجل مكوَّنة من المحاربين الذين يهتمون فقط بنهب الذهب، بيد أن الأثر الذي خلفته إمبراطورية الهون على المؤسسات السياسية والدينية والثقافية عند الرومان كان عميقاً.
وتُلخص كلمات الوداع على شاهد قبر أتيلا الهوني شخصيته. إذ نهب بكثرة ومات "آمنا بين حاشيته، سعيداً ومُبتهجاً وغير مُتألم".