هل مات غسان كنفاني؟

عدد القراءات
967
عربي بوست
تم النشر: 2020/07/08 الساعة 14:28 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/07/08 الساعة 14:40 بتوقيت غرينتش

كيف نكتب؟ وماذا نكتب؟ ولماذا نكتب؟ كان "غسان كنفاني" هو الإجابة الواضحة بالنسبة لي عن هذه الأسئلة التي شغلتني. فكيفية الكتابة كانت في قبضه على القلم كأنه يتأهب لضغط الزناد، وإحكام كلماته في قلبه كما يُحكم المقاوم كعب البندقية في كتفه، وتركيز عينيه كما يحدّق القناص بهدفه حتى يدوس على الزناد، ويحدث الأمر الجلل، القناص يقتل في العادة، لكن غسان كان قناصاً يَبعث الموتى للحياة من جديد.

وماذا نكتب؟ كان يكتب الأسئلة مرفقةً بالإجابات، كان يطرح الحكاية ويروي القصة كأنها فزورةٌ مستعصية، قبل أن يحلها هو ببساطةٍ شديدة. التعقيدات؟ المفاوضات؟ ما بعد 48؟ مناطق الـ67؟ كم كيلومتراً لبناء الجدار؟ من أين سيمتد السياج الفاصل؟ في أي بندٍ تتفق "إسرائيل" والسلطة ويختلفان؟ كان الحل ببساطةٍ خارج أي عصفٍ ذهنيّ، كان عصفاً من نوعٍ آخر، عصفاً مأكولاً حين يرميهم بسِجِّيله ويقول بهدوءٍ شديد: الأرض كلها لنا.

ولماذا نكتب؟ كان هذا هو السؤال الذي يجيب عنه غسان بعمره كله، لأننا يا سيدي كلمات لا أكثر، النكسة كلمة، والنكبة كلمة، والقضية كلمة، ولا بد أن نقول شيئاً في كل شيء، وأن نظل نكتب ما دام صرير القلم يُزعج مَن لا يفهمون في الأقلام، وألّا نصمت ما دام صمتنا يروق لمن لا يحبون الصوت، وأن نتكلم ما دام الكلام ليس على هوى الذين يقطعون الألسنة، وأن نسكب الحبر كلما سكبوا الدم، حتى يتحرّك بعض القادرين على سكب الدم يوماً، ونحن لسنا أقل منهم في شيء حتى يضربونا بالرصاص ونقابلهم بالقلم الرصاص.

حين قرأت أول روايةٍ في حياتي كانت لغسان، بعد يومين كنتُ قد التهمت تقريباً نصف ما كتبه في حياته كلها، قلتُ كيف لشخصٍ واحدٍ أن يبعثني مثلما فعل؟

من القليلين الذين أحفظ تاريخَيْ ميلادهم ووفاتهم دون تردد، أو الوحيد، هو ذلك الشاب، وُلد في 1936 واغتاله الموساد فمات في 1972، وبين هذا وذاك 36 عاماً فقط، استدعت عصابةً بحجم إسرائيل أن تغتال ذلك الهزيل، صاحب الجسم النحيف. ربما كان العيب في صوته، كان صوته خشناً، جبلياً، أتخيل أحباله كلما تكلم، تخنق أكذوبة إسرائيل، وتُوسِعها ضرباً داخل حنجرته، حتى تخرج "إسرائيل" مغشياً عليها، عاريةً تماماً من الصحة، فوق أوراقه، ولذلك فقط اغتالته "إسرائيل"، وكانت هي المرة الوحيدة التي ظنت نفسها انتصرت على غسان، وفي الحقيقة كان انتصاراً لغسان لكنه بشكل مختلف.

ما ميّز كنفاني أنه لم يكن كاتباً فقط، ولم يكن صحفياً فقط، ولم يكن مناضلاً فقط، وإنما كان كل ذلك في الوقت نفسه، كان أكثر من رجلٍ في رجلٍ واحد، منظومة كاملة تسير على قدمين اثنتين، دولة تمتد من النهر إلى البحر مرسومة في وجهه، شعورٌ مجدولةٌ وضفائر مسدولةٌ وفتياتٌ يخبزن القمح والشعير، ملخصةٌ كلها في حاجبيه المرفوعين طوال الوقت غضباً واندهاشاً، قضية شاملة بكل ما فيها من حدود ولا حدود، محمولة في جيبه، بقلمٍ صغير، وزارات ووزراء، طاولات مفاوضات، اجتماعات ولقاءات، طائرات وحدائق، فنادق وربطات عنق، ابتسامات وأحاديث، وبيانات معلنة، وصفقات غير معلنة، ملخصة كلها تحت حذائه. ما ميّزه هو أنه كان ممتداً جداً، كفلسطين.

كتب غسان عن فلسطين التي يعرفها، وعرَّفها لنا على طريقته، فلسطين البيت والشارع والحارة، الدكان والحوانيت ومحال العطارة، الهجرة والنزوح، الشباب والشيوخ، الفتيات الحسناوات والخيام القبيحة، الأطفال الأبرياء والحرب المجرمة، الحجارة والطائرات، النبلة والبندقية، سيارات الجيب وسيارات التهريب.

حكى لنا عن كل شيء هناك، ولم يكتفِ بذلك، وإنما حمّلنا أمانة أن نكون هناك، أننا وصلنا بالفعل، أن هذه السيدة وقعت ونحن بجوارها، أفلا نمد أيدينا؟ أن هذا المقاوم يجري مكشوف الظهر، ألا نغطيه؟ أن هذا الطفل على وشك السقوط في الآخرة، ألا ننتشله قبل وقوع القذيفة؟ أنّ هذه الأرض كلها مغتصبة، كلها مسروقة، والسارق أمامنا مختالاً في بزته العسكرية، أفلا نمد أذرعنا لنقتلع روحه من رقبته فنرتاح منه إلى الأبد؟ حكى لنا الرجل الحكاية، وبينما يحكيها وجدنا أنفسنا أبطالها، ثم رحل وتركنا لنُحدد النهاية.

ونحن هنا اليوم، الأبطال الذين ترك لهم غسان إرثه الثقيل، لا نكتب ولا نسمع ولا نرى عن فلسطين إلا ما يقوله مذيعو الأخبار في عاجلٍ مدته ثلاثون ثانية، نحن المطالبون أصلاً باسترداد تلك الأرض التي تأتي منها الأخبار العاجلة على استحياء.

وكنت أتصور نموذجاً في رأسي للكاتب صاحب القضية وحامل الرسالة، حتى خلصت إلى تعريفه بأنه الكاتب الذي يدفع الموساد إلى التفكير في قتله. ثم نظرت إلى زماننا فقتلوني هم من الضحك، وكان الموساد في المقعد الأخير من المسرح يصفق بحرارة، ثم يقف تبجيلاً، ويرفع القبعة ويقول: "عاش"، هؤلاء لا يريدهم الموساد أن يموتوا، لأنهم ببساطةٍ حبر على ورق تواليت، ما إن تشد "إسرائيل" السيفون في آخر كل يوم، حتى يصبحوا عدماً، كأن شيئاً لم يكن.

أين الأدباء؟ وأين الأدب؟ وأين غسان ثانية؟ لا أعلم، المثير للضحك بمرارةٍ أننا لم نعد نتحدث عن فقدان الأبطال الذين حملوا القضية، وإنما نتحدث عن فقدان مَن يكتب حتى، بقلمه فقط، عن القضية. كلهم مشغولون في بلاد أخرى، في أراضٍ أهم بكثير من فلسطين.

إنهم يا صديقي كتاب يعجبون "إسرائيل"، لأن القضية عنوان مقالةٍ لديهم كل خمس سنوات، ولأن فلسطين اسم بلد عربي بغض النظر عنه إن نقصت أطرافه أو قُصت، ولأنهم يؤمنون -في كل شيء- بالرأي والرأي الآخر، بالاحتلال والاحتلال الآخر، بإنسانية كل الناس، بأحقية الفلسطيني في أرضه، وأحقية الصهيوني في وطنٍ يلم شمله، بجمالِ الفنّ بالعربية أو بالعبرية، بابتسامات السكان بغض النظر عن هوياتهم. هؤلاء يحبهم الاحتلال، ولو استطاع لبنى لهم تماثيل في ميادين بلداتنا المسروقة بالأرض الواسعة المحتلة، لكنه -مثلنا في هذه فقط- يراهم أرخص من أن يُبنى لهم تمثال، لأنهم يؤدون دورهم على أكمل وجهٍ مجاناً، ويجيبون بدبلوماسية قذرة عن الأسئلة التي أغاظتهم إجابة غسان الواضحة عنها.

لكن رغم مصابنا الجلل في موت كل الكتاب والأدباء، ما زال بداخلي أمل صغير، كلما نُفخ فيه زاد توهجه ولم ينطفئ، أن الرجل ترك لنا مؤنةً تكفي سنوات الجفاف الطويلة من بعده، وترك قراءً يحفظون ما كتب في صدورهم، ويتلونه غيباً في كل انتفاضة. وأشك أن يأتي غسان جديد، لكن ربما يأتي من الصغار أحدٌ يشبهه، في مشيته المتئدة، وعينه الثاقبة، وضميره اليقظ، في كلمته الواضحة وصوته الخشن، في بساطة إجاباته رغم أن الأسئلة تبدو معقدة.

هل مات غسان؟ قتلوه وما زال بيننا، يدفعني لأكتب ذلك المقال، ويدعوني لأخطّ عباراته على الجدران، واقفاً يحمل فوق كتفيه طفلاً يرسم على السياج الفاصل طائراً بجناحين عملاقتين، ماشياً يمسك مكبر الصوت لقائد المسيرة حين يهتف فلسطين، جارياً في الشوارع الجانبية ينتظر عبور مصفحة الجنود ليرمي عليها زجاجة مولوتوف، متسللاً من الزمان والمكان ليحضر معنا، ننظر إليه في دهشة فيكتم أفواهنا بيديه، ويقول: هششش.. أنا هنا، والأرض لنا إلى الأبد.


كان الموساد غبياً جداً حين اغتال "غسان" في سيارة مفخخة، كان بإمكانهم قتله برصاصة كصديقه ناجي العلي، فنرفع جسده ونواري جثته التراب في بلدٍ معين، في بيروت مثلاً، لكنهم يالَغبائهم قتلوه في سيارة مفخخة، فتبعثرت أشلاؤه في كل مكان، وما زالت تتبعثر حتى اليوم، أمانةً فوق رؤوسنا، حتى إذا اجتمعنا ذات يومٍ في فلسطين، وجئنا من كل بلدٍ طارت فيها أشلاؤه، تجمّع غسان ثم وقف صُلباً في مكانه، وسار في هدوء وهو يقول: "لقد حاولوا أن يذوّبوني كقطعة سكر في فنجان شاي ساخن، وبذلوا -يشهد الله- جهداً عجيباً من أجل ذلك، ولكنني مازلت موجوداً رغم كل شيء".

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

يوسف الدموكي
كاتب وصحفي مصري
كاتب وصحفي مصري، تخرج في كلية الإعلام، قسم التلفزيون والسينما، يعمل بالصحافة وكتابة المحتوى والسكريبت، نُشر له 3 كتب مطبوعة، وأكثر من 200 مقال.