يحدثنا التاريخ في صفحاته، عن فضل الأطباء والعلماء العرب والمسلمين الأوائل على العالم كله؛ في بناء الأسس العلمية والعملية للطب الذي نعرفه اليوم، والتي استفادت منها الحضارة الأوروبية في بنائها للطب الحديث، الذي طوروه عن هؤلاء العلماء؛ كأبي بكر الرازي، وابن سينا، وابن النفيس، وابن جابر الحيان، الذين نعرفهم في العادة، بسبب شهرتهم التي تعدّت العصور.
ولكننا هنا، نتحدث عن بعض الأطباء المسلمين المهمين الآخرين الذين لا نعرفهم عادة، أو لم نسمع عنهم كثيراً، مثل الطبيب والمؤرخ أحمد بن الجزّار القيرواني، وهو واحد من أشهر أطباء وعلماء القرن الرابع الهجري.
يمكنك قراءة مادتنا السابقة عن الطبيب أبو القاسم الزهراوي، أوّل جرّاح في العالم، من هنا.
ابن الجزار القيرواني.. إرث عائلي كبير في الطبّ
ولد أحمد بن الجزار، بالقيروان في تونس عام 278هـ/891م -على أغلب الظن-، في عهد الأمير إبراهيم الثّاني الأغلبي، لأسرةٍ اشتهر أبناؤها بالطب، فقد كان والده طبيياً للعيون، وعمه أبو بكر طبيباً في الجراحة، واختلف العلماء في تحديد سنة وفاته أيضاً، ويُرجح أنه توفي عام 360هـ/970م.
اهتمّ ابن الجزار منذ طفولته بالمطالعة ودراسة الطب والأمور العلمية، ولقد تتلمذ منذ صغره على يد أبيه وعمه، اللذين وصفهما المؤرخ شمس الدين الذهبي بأنهما "كانا طبيبين حاذقين". كما لازم الطبيب الشهير في عصره، إسحاق بن سليمان الإسرائيلي، وهو طبيب يهودي قدم من مصر إلى القيروان، وتتلمذ على يده، وكذلك درس على يد إسحاق بن عمران البغدادي في قيروان.
أما عن سيرة حياته، فيعود الفضل في أغلب ما نعرفه عن الجزار، إلى الطبيب الأندلسي سليمان بن حسان المعروف بابن جلجل صاحب كتاب "طبقات الأطباء والحكماء" التاريخي، الذي تحدث عن ابن الجزار ومكانته العظيمة في القيروان، وأنه كان لا يأخذ أجراً على تطبيبه للفقراء.
كتب ابن جلجل عن الجزار: "كان قد أخذ لنفسه مأخذاً عجيباً في سِمَته وهديه وتعدده ولم يحفظ عنه بالقيروان زلّة قط ولا أخلد إلى لذة وكان يشهد الجنائز والعرائس ولا يأكل فيها ولا يركب قط إلى أحد من رجال إفريقية ولا إلى سلطانهم إلا إلى أبي طالب عم معد (المعز لدين الله الفاطمي) وكان له صديقاً قديماً فكان يركب إليه يوم جمعة لا غير وكان ينهض في كل عام إلى رابطة على البحر المستنير (…) فيكون هنالك طول أيام القيظ ثم ينصرف إلى إفريقية (القيروان).
ابن الجزار القيرواني.. إسهامات لا محدودة في الطب
أمضى ابن الجزار فترات طويلة من حياته في دراسة مؤلفات الطب وعلوم النبات والأعشاب والصيدلة عند العرب والحضارات القديمة، من خلال الترجمات اللاتينية لكتب الطب والأدوية المفردة والمركبة، لكبار الأطباء مثل: ديوسقريدس، وجالينوس، وأبقراط، ووضع ملاحظاته على كل دواء وجده في هذه الكتب.
وأولى اهتمامه لدراسة الأدوية بمنهجيةٍ خاصة، وألف لها كتاباً أسماه "إبدال الأدوية"، صنّف فيه أنواع الأدوية، وحدّد تلك المستخرجة من النباتات؛ مع ضبط أسماء النباتات باللغات العربية واليونانية، وقدَّم وصفاً تفصيلياً لكل دواء، من خصائص علاجية والحالات التي يؤخذ فيها، كما شرح كيفية الكشف عن غشِّ الأدوية، وكيفية استبدالها ببدائل أخرى، كما فرّق بين بيت الوصف "مكان فحص المريض"، وبيت الصرف "مكان تقديم الدواء له"، أي أنّه فرّق بين العيادة الطبية والصيدلية، بالمصطلحات الحديثة.
كما ألف كتاب "الاعتماد في الأدوية المفردة"، وصنّف فيها النباتات بحسب اللون، وبحسب لون زهوره، وبحسب هيئة النبات، وبحسب هيئة الأوراق أو البذور أو الأغصان، وحجم النبات، وبيئة الإنبات، وزمن الظهور، والمنطقة الجغرافية وجنس النبات.
كما وضع أسس الطب الباطني في كتابه "المعدة وأمراضها ومداواتها"، فقد شرح فيه تشريح المعدة ووظائفها، والأمراض الناجمة عن اضطراب الوظيفة الهضمية، وتحدث عن الأمراض الخاصة كالأورام وغيرها، بشكل مفصل.
ولابن الجزار مؤلفات طبية مهمة ومتنوعة، وله كتاب "زاد المسافر في علاج الأمراض"، وكتاب "زاد المسافر وقوت الحاضر"، وكتاب "العدة" المطوَّل في الطب، وكتاب "مجربات في الطب"، و"رسالة في الزكام" و"الجذام"، وكتاب "رسالة النفس" وأقوال الأوائل فيها، وكتاب "طب الفقراء"، ورسالة في التحذير من إخراج الدم لغير حاجة، وكتاب الأسباب المولِّدة للوباء في مصر بطريق الحيلة في دفع ذلك، وكتاب المدخل إلى الطب سمَّاه "الوصول إلى الأصول"، ومؤلفات كثيرة بعضها موجود وبعضها تم فقدانه.
على أن "زاد المسافر" هو أشهر كتب ابن الجزار، الذي بقي من المراجع المهمَّة للباحثين وطلاب العلوم الطبية حتى الآن، حيث يتكون من جزأين يحتويان على سبع مقالات، تختصُّ في معالجة أمراض الكبد، والكُلَى، وأعضاء التناسل، وأمراض الجلد، والحميات، ولدغ الهوام، وأذى السموم، فضلاً عن الأدوية التي يمكن استعمالها، وتوجد أقدم مخطوطات مترجمة منه بالفاتيكان.
كان ابن الجزار يهدف أن يكون هذا الكتاب، عوناً للمسافر وقتها للبلدان التي لا يوجد بها طب متطور، لذلك فكّر بأنّ الشخص المسافر أو حتى المقيم في موطنه، قد لا يكون معه المال الكافي لاستشارة الطبيب، أو شراء العقاقير الموصوفة له، حتى ألف كتاباً مشابهاً له اسمه "طب الفقراء"، والذي يقدم فيه أفضل الحلول المجانية والمتاحة في الطبيعة من أجل التداوي من الأمراض الشائعة.
أول أخصائي مسلم في طب الأطفال
يعتبر المؤرخون أن ابن الجزار القيرواني هو أول طبيب مسلم متخصص في طب الأطفال، ويتضح ذلك من أمرين، الأول هو كتاب "سياسة الصبيان وتدبيرهم"، الذي شرح فيه ابن الجزار عن رعاية الأطفال منذ خروجهم من أرحام أمهاتهم، وعن تغذيتهم ونومهم وغسلهم وتنظيفهم وإرضاعهم، وصفات اللبن وتركيبه، وعن المرضعات والحاضنات، وعن الأمراض التي يتعرض لها الصبيان من الرأس حتى القدم، وعن رعايتها وعلاجها، وختم كتابه بالكلام عن طبائع الصبيان وعاداتهم؛ كما أنه أول من تكلم عن منعكس المص عند المولود.
أما الأمر الثاني، فهو قصة الحادثة الغريبة التي حدثت مع ابن الجزار، وجعلته يتخصص في طب الأطفال، بجانب التخصصات الأخرى، بعد أن كادت أن تودي بحياته في فترةٍ مبكرة من فترات ممارسته لمهنة الطب.
يخبرنا المؤرخ تقي الدين المقريزي عن إصابة المنصور، أمير تونس في زمن ابن الجزار، بمرضٍ عُضال بسبب البرد الشديد والثلوج، التي تعرَّض لها في إحدى أسفاره، فأراد أن يدخل الحمّام وهو في طريق عودته، لكن طبيبه إسحاق بن سليمان الإسرائيلي -أستاذ ابن الجزار- نهاه عن ذلك، ولكنه لم يستمع لطبيبه، ودخل الحمام وانخفضت حرارته.
وبعد أن اشتد المرض على المنصور، طلب من أعيانه بأن يحضروا له طبيباً آخر غير الإسرائيلي، فأحضروا له الطبيب الشاب ابن الجزار، فحضر له دواءً مخدِّراً ليأخذه وينام وتستقر حرارته، ولكن الأمير تُوفي بسبب هذا الدواء.
فأراد الحرس قتل ابن الجزار، إلا أن أستاذه الإسرائيلي دافع عنه حتى عُفي عنه، بدعوة أنه جهل أصل المرض، وعلى أثر هذه الحادثة، توصل ابن الجزار إلى أن الطب يجب أن ينقسم إلى تخصُّصات، ولا يجب على الطبيب أن يخلط بين إصابة عجوزٍ بمرض، وإصابة طفلٍ بنفس المرض، فطريقة العلاج يجب أن تكون مختلفة في كل حالة، وبالفعل تخصص بعدها بطب الأطفال، وألف كتابه "سياسة الصبيان" الذي يشابه طب الأطفال المعاصر في تفاصيله.
تأثر أوروبا بمؤلفات ابن الجزار
يتضح تأثُّر أوروبا بمؤلفات ابن الجزار باحتفاظها ببعض كتبه، ومن المؤلفات المعروفة لابن الجزار القيرواني، كتابه "الاعتماد"، الذي توجد منه نسخ في تركيا وفي المتحف البريطاني، كما تمّ تدريس كتابه "زاد المسافر" في أوروبا بعد ترجمته إلى اللاتينية واليونانية. وانتشرت طبعات الكتاب ونسخه في أوروبا.
وقد نال كتاب "زاد المسافر وقوت الحاضر" شهرة واسعة بين أطباء القرون الوسطى، وظل يدرّس في الجامعات الأوربية حتى القرن السادس عشر كما تقول مؤلفة كتاب "بُناة الفكر العلمي في الحضارة الإسلامية" حليمة غراري، وفي حادثة تاريخية تحدث عنها الكثير من المؤرخين، هي أن نابليون بونابرت كان يحمل معه هذا الكتاب، أثناء الحملة الفرنسية على مصر.
كيف انتقلت مؤلفات ابن الجزار لأوروبا؟
في حقيقة الأمر، كانت علوم ابن الجزار معتمدة في الشرق العربي الإسلامي ويناقشها الكثير من ممارسي مهنة الطب، وكانت أيضاً تجد طريقها إلى الأندلس بفعل العامل الجغرافي وحركة التنقل، لكنّ آراءه الطبية الجريئة اقتحمت أوروبا في القرن العاشر الميلادي، وذلك على أثر نقل قسطنطين الإفريقي لكتب ابن الجزار.
كان قسطنطين الإفريقي طبيباً مستعرباً، مسلماً سابقاً ولد في القيروان نحو عام 1020، ثم خرج من الإسلام وتحول إلى المسيحية وأصبح راهباً في الدير البنديكتي بمونت كاسينو في إيطاليا، وقد نقل معه عدة كتب لابن الجزار وادعى أنه هو من ألفها.
فقد ترجم كتاب "الأدوية المفردة" إلى اللاتينية ونسبه إلى نفسه، إلا أنّ المؤرخ الأوروبي شتاين شنايدر، كشف هذا الانتحال، وقد ترجم عدة كتب أخرى ونسبها لأشخاص يونانيين ككتاب "زاد المسافر"، وعلى أي حال، فتح قسطنطين هذا أعين المترجمين على كتب المشرق العربي الإسلامي، لتبدأ حركة نقل الثقافة من الشرق للغرب.