كانت الصين -وما زالت- إحدى أوسع الدول في التاريخ، لكنها لم تكن دائماً موحدة كما هي عليه الآن، وإنما كانت مكونة من عدة ممالك؛ نظراً إلى مساحتها الشاسعة والإثنيات المختلفة داخلها. وفي بدايات القرن الثالث عشر الميلادي، واجهت الصين -كما المشرق الإسلامي- كابوساً مخيفاً، متمثلاً في شخصية جنكيز خان.
كان على الصين أن تقلق بالطبع، لكن ليس الصين كلها، فقد فشل جنكيز خان في غزوها كاملةً والسيطرة عليها، ومن بعده 4 من خلفائه، حتى جاء قائدٌ آخر استطاع تحقيق حلمه، ذلك هو حفيده: قوبلاي خان، الذي تدور أحداث مسلسل الرحالة الإيطالي Marco Polo في بلاطه الملكي.
كيف وصل قوبلاي خان للحكم؟
بعدما جمع جنكيز خان قبائل السهوب المغولية في عام 1206، وضع نُصب عينيه هدف التوسع على حساب الدول والشعوب الأخرى، مثيراً في كل غزواته الرعب من الفظائع والأهوال التي يرتكبها جنوده.
حين تُوفي جنكيز عام 1227، كان قد احتل أراضي سلالة جين الحاكمة شمال الصين، ومساحاتٍ شاسعة من آسيا الوسطى، التي كان بعضها ممالك إسلامية.
أما معنى كلمة "خان" فتعني "حاكم"، وتُكتب أيضاً خاقان، أي الخان الكبير. وبموت جنكيز، أصبح نجله أوقطاي ثاني خان، وتلاه ابنه جيوك ثالث خاقان. وفي عام 1251، انتقلت الخلافة إلى مونكو، حفيد جنكيز من ابنه تولي.
كان قوبلاي شقيق مونكو خان، وأخوهما الأصغر كان هولاكو الذي أذاق المسلمين كثيراً من الأهوال، بعدما دمر فارس الإسلامية ووصل إلى بغداد وقتل خليفتها العباسي وهدمها.
وُلد قوبلاي عام 1215، وكانت والدته "سرقويتي بيجي" من أفراد طائفةٍ مسيحية شرقية. وبوصفها زوجة تولي، نسقت سياسات السلالة الحاكمة بمهارةٍ عالية، لتضمن تولي ابنها الأكبر مونكو الخلافة بصفته الخاقان الرابع عام 1251. كما أدت دوراً حاسماً في تشكيل شخصية قوبلاي، وفق ما نشرته شبكة National Geographic الأمريكية.
علَّمته والدته التقاليد المغولية، كما شجعته على التسامح مع الأديان الأخرى، مثل الإسلام، نعم بلا استغراب، ففي حين كان أخوه هولاكو يقتل المسلمين كان قوبلاي خان يستعين بوزراء وقادة مسلمين في دولته، كما ظهر بمسلسل Marco Polo.
وظفت والدته معلِّمين صينيين، حتى يتعلم قوبلاي التقاليد المحلية للصين وأُسس البوذية والطاوية. ساعده هذا التعليم مُتعدد الثقافات لاحقاً في فهم أهمية التسامح مع تقاليد وعقائد المناطق التي غزاها، عكس أخيه الأصغر هولاكو.
حين صار مونكو الخان الأعظم للمغول عام 1251، شارك قوبلاي في توسعات شقيقه الإقليمية، وفي حين كان هولاكو يعيث فساداً ببلاد المشرق الإسلامي، كان أخوه الكبير قوبلاي يحتل جنوب غربي الصين وفيتنام المُعاصرة. إلى أن توفي مونكو عام 1259، حينها بدأ الصراع.
وصلت الأنباء إلى قوبلاي بأن أحد أشقائه المسمى أريك بوكا، كان يرغب في إعلان نفسه خاناً أعظم للمغول. فاتجه قوبلاي (45 عاماً حينها)، إلى مقر إقامته في مدينة شانغدو الصينية، على عجالة، ليُقرر خطوته التالية.
كان قوبلاي يعلم أن خليفة مونكو يجب أن يتمتع بمهاراتٍ دبلوماسية وعسكرية لا تُقهر، حتى يتمكن من الحفاظ على الأراضي المُترامية الضخمة التي تمتد من شمال الصين وصولاً إلى بلاد فارس وروسيا.
ولمواجهة تهديد أريك بوكا؛ اختار قوبلاي طقساً مُثيراً سيمنحه شرعيةً في الصين لاحقاً لا تتزعزع. بعد التشاور مع مستشاريه، قرر قوبلاي تعزيز موقفه بقراءة كتاب التغيرات (ايجينغ)، وهو نظام عرافة صيني يرتبط بالكونفوشيوسية والطاوية.
كشف الطقس الصيني المقدس أن قوبلاي سيُحقق نجاحاً عظيماً إذا ثابر على المسار الصحيح!
كان قرار قوبلاي اختيار تقليدٍ صيني، بدلاً من التقاليد المغولية، يُمثل تذكيراً قوياً بحلمه. إذ كان قوبلاي يتحرك مدفوعاً بالأحلام التي لم يُحققها جده جنكيز خان، الذي كان يرغب في توحيد الصين بأكملها تحت الحكم المغولي.
أدرك قوبلاي أن إخضاع الصين يختلف تماماً عن حكمها، إذ سيتطلب الأمر اتخاذ إجراءات متوازنة بدقة؛ من أجل كسب رضا رعاياه الصينيين مع الحفاظ على ولاء المغول.
تولى قوبلاي السلطة بوصفه خاقاناً. لكن كيف أصبح الحاكمَ الوحيد لأكبر إمبراطورية أراضٍ مُتجاورة في العالم، تمتد من المحيط الهادئ وحتى البحر الأسود؟
توترات وانتصارات الخان الجديد
بعد إعلانه خاناً أعظم في عام 1260، اضطر إلى التعامل مع مطالبات أخيه أريك بوكا بالعرش قبل أن يعود لمواصلة حملات الغزو. إذ بدأت التوترات الداخلية تُمثل تهديداً أكبر من الأعداء الخارجيين.
ورغم إجلال وسلطة لقب الخاقان، فإن حصول قوبلاي على اللقب مثَّل بداية انقسام الأراضي المغولية إلى خاناتٍ وإمبراطورياتٍ فرعية:
القبيلة الذهبية على نهر الفولغا (اعتنقت الإسلام)، وخانية الجاغاطاي بآسيا الوسطى (اعتنقت الإسلام في النهاية أيضاً)، والدولة الإلخانية في إيران مؤسسها هولاكو (اعتنقت الإسلام أيضاً)، والأراضي الصينية التي كان يحكمها قوبلاي نفسه.
كانت هذه الخانات تابعة للخان العظيم، وكانت تلك الدول تؤدي له فروض الولاء والطاعة، لكنها كانت مستقلة في الوقت نفسه، ولهذا مثلاً في فارس كان اسمها دولة (إيلخان) وتعني الخان الصغير.
بعد هزيمة أخيه أريك بوكا عام 1264، استأنف قوبلاي حملاته ضد سلالة سونغ الحاكمة جنوب الصين بعد ثلاث سنوات، كانت تلك السلالة تحكم نحو 50 مليون صيني في ذلك الوقت.
قاومت سلالة سونغ بالفعل العدوان المغولي لسنواتٍ طويلة، وكانوا يمتلكون القادة العسكريين المهرة، والبارود، والمعدات العسكرية الممتازة التي تشمل محركات الحصار. وحين استأنف قوبلاي أعماله العدائية، كان من الواضح أن المعركة الأخيرة باتت وشيكة.
كانت الحرب طويلةً وشاقة. ولعلمهم أن قوة قوبلاي تكمن في هجمات الفرسان المغول السريعة على الأراضي المفتوحة؛ استغلت سلالة سونغ نقاط ضعفه بالانسحاب إلى مواقع شديدة التحصين.
أسفر ذلك عن عمليات حصار طويلة وممتدة. لذا شن قوبلاي حملةً من الهجمات الساحلية؛ لقطع طرق إمدادهم. وكان ذلك التكتيك محفوفاً بالمخاطر بالنسبة لقائدٍ خبير في ثقافة السهوب لا البحار.
بحلول عام 1273، أدت مثابرة المغول إلى سقوط مدينة شيانغيانغ المُحصنة. وتدريجياً، بدأت عوالم سلالة سونغ الجنوبية الثرية في الانهيار تماماً أمام قوبلاي خان. وفي عام 1279، سقطت أراضي سونغ الجنوبية كاملةً في قبضة قوبلاي خان، وتوحدت الصين للمرة الأولى منذ قرون.
المهمة الجديد للخان: حُكم الصين كاملة!
بالتزامن مع استيلاء قوبلاي خان على مزيد من أراضي سلالة سونغ، أعلن أن عهده يُمثل سلالةً حاكمة جديدة للصين! أي إنه إمبراطور الصين الجديد.
في عام 1271، نصَّب قوبلاي نفسه إمبراطوراً لسلالة سماها "يوان" التي تعني "الأصل العظيم". وبفضل تعليمه ومستشاريه حينها، أدرك قوبلاي أن الأمر الأهم هو تبنِّي الثقافة الصينية تماماً.
فارتدى الأزياء الصينية، واعتنق عاداتهم، ودمج أساليب الحوكمة والإدارة الصينية في الدولة الناشئة، وشكَّل فريقاً من المستشارين المحليين؛ لمساعدته في إدارة البلاد.
كان لوي بينغ تشونغ واحداً من أهم مستشاريه. ففي بداية حكمه أقنعه بنقل عاصمة المغول من قراقورم العاصمة التاريخية التي أسسها جنكيز خان، إلى مدينة شانغدو، مُتوقعاً نكهةً صينية مُتزايدة لعهد قوبلاي.
وبفضل بنائها للأغراض الحكومية والتجارية، أثارت مرافق المدينة الفخمة إعجاب المُستكشف الإيطالي ماركو بولو حين التقى قوبلاي خان، وهنا يجب ذكر أن مسلسل ماركو بولو لم يقدّم الحقائق التاريخية كاملة وإنما طوّرها بشكلٍ درامي.
بحلول وقت زيارة ماركو بولو، في منتصف سبعينيات القرن الثالث عشر، كانت شانغدو قد بدأت تتحول إلى قصرٍ صيفي. وحتى ترتكز الإمبراطورية على الأراضي الصينية أكثر؛ انتقلت العاصمة إلى الجنوب الشرقي في دادو "بكين الحالية".
وقد اشتهر ماركو بولو، لأنه خدم في بلاط قوبلاي، وهي خطوةٌ تكشف انفتاح الخاقان على العادات الأجنبية والديانات المختلفة، عكس إخوته.
اعتمد قوبلاي في عهده لاحقاً، على الأفراد العسكريين من غير المغول والمستشارين الأجانب بشدة، مما أسفر عن إخفاقات عسكرية بارزة، مثل محاولاته غزو اليابان عامي 1274 و1281، ونجاحات مثل غزوه لفيتنام وبورما.
لكن التسلسل الهرمي لسلالة يوان كان صارماً أيضاً: فقد احتل المغول قمة الهرم، يليهم أبناء آسيا الوسطى، ثم الصينيون.
ورغم اعتماد قوبلاي على بعض الصينيين ليكونوا مُستشاريه المقربين، فإن النبلاء الصينيين كانوا مستاءين من إبعادهم عن المناصب العليا في حكومته، ومن إلغاء اختبارات الخدمة المدنية، مما أسفر عن القضاء على فرص التوظيف والارتقاء الاجتماعي لألمع وأفضل أبناء المجتمع الصيني.
في الوقت ذاته، استاء المغول من طبيعة هيكل إمبراطورية قوبلاي، الذي كان يرتكز على الصين بشكلٍ مُتزايد.
ومع ذلك.. سلالته لم تستمر طويلاً
اختار قوبلاي حفيده تيمور ليكون خليفته حين مات عن عمرٍ يناهز 79 عاماً في عام 1294. وقال إن جثته -التي لا نعلم مكانها- يجب أن تُدفن إلى جوار جثة جده جنكيز في برخان خلدون، وهي سلسلة جبال بشمال شرقي منغوليا. فرغم السنوات الطويلة التي عاشها في الصين، فإن قلب قوبلاي ظل منتمياً إلى سهوب منغوليا.
وسيظل غزوه للصين أعظم إنجازاته على الإطلاق، فقد حقق حلم جده. لكنه لم يكُن سينجح في ذلك دون تبني العادات الصينية، وهو ما نفّر الأرستقراطيين المغول الذين اعتبروا الصينيين أدنى مكانةً منهم.
وقد أدت التوترات بين النخبة المغولية ورعاياها -خاصةً الصينيين- دوراً كبيراً في زعزعة استقرار الحكم المغولي لاحقاً. ورغم أن قوبلاي ترك عند موته إمبراطوريةً مُستقرة ومزدهرة نسبياً، فإنها انهارت بعد أقل من قرن على وفاته.