مع كثرة الحديث عن الأوبئة في التاريخ البشري، وكيف تعامل معها الإنسان، ربّما طرأ على أذهانكم سؤال حول آخر الدول الإسلامية الكبرى؛ الدولة العثمانية والأوبئة، كيف تعاملت معها؟ وهل كان الوضع بهذا السوء كما في بعض الإمبراطوريات المتواجدة في ذلك الوقت؟
ربّما قرأنا كثيراً عن الحروب الضارية التي شنتها الدولة العثمانية على أوروبا. لكنّنا الآن سنقرأ عن الحروب التي دخلتها ضد أوبئةٍ قاتلة أبرزها الطاعون والكوليرا. فقد اختبرت الدولة العثمانية بداية ظهور نظام الحجر الصحي وأماكن تطبيقه والأجهزة المكلفة بإدارته.
قصّة الحجر الصحّي في الدولة العثمانية
البروفيسورة غولدن صاري يلديز، عضو هيئة التدريس بقسم إدارة المعلومات والوثائق بكلية الآداب في جامعة إسطنبول التركية، قالت إن أول تطبيق لنظام الحجر الصحي في الدولة العثمانية كان في عهد السلطان محمود الثاني، أثناء تفشي وباء الكوليرا عام 1831.
وفي حديثها لوكالة أنباء الأناضول، قالت إن العثمانيين كانوا يستخدمون مصطلح "أصول تحفُّظ" و"تحفُّظ خانه" للدلالة على الحجر الصحي والمكان الذي يتم فيه الحجر، وليس المصطلح المستخدم حالياً "كارانتينا".
وأضافت أن الـ"تحفُّظ خانه" كانت أماكن يتم فيها التحفُّظ لمدة معينة على الراغبين في دخول المدينة أو الخروج منها، بهدف منع انتشار الوباء وانتقال العدوى، واحتجاز المشتبه بإصابتهم بعيداً عن الأصحاء، ومعالجة المرضى.
أما أوّل تطبيق لنظام الحجر الصحي في العالم فكان في مدينة فينيسيا ودوبروفنيك عام 1377، وأوّل محجر صحي تأسّس كان في جزيرة سانتا ماريا دي ناتسارت، بالقرب من فينيسيا عام 1423، بحسب صاري يلديز.
تضيف يلديز أنه اعتباراً من نهاية القرن الرابع عشر بدأ اتخاذ إجراءات الحجر الصحي في موانئ شرق البحر المتوسط، وبعد ذلك بدأ تطبيقه بحزم في النقل البري أيضاً.
كما أوضحت أنّ الأوبئة الكبرى التي انتشرت كان لها أثر كبير في ظهور تطبيق الحجر الصحي بالمفهوم الحديث، وخاصة وباء الكوليرا، أشهر أوبئة القرن الـ19، الذي ساعد في تسريع وتيرة تأسيس المؤسسات الصحية وإبرام اتفاقيات وتعاون بين دول العالم في قطاع الصحة.
وأضافت صاري يلديز أن جائحة الكوليرا في القرن التاسع عشر أخذت مكان وباء الطاعون الذي فتك بالإنسانية على مر العصور.
الحجر الصحِّي كان في "برج الفتاة" بأوسكودار
ووفق صاري يلديز، فإن أول تطبيق لنظام الحجر الصحي في الدولة العثمانية كان في عهد السلطان محمود أثناء تفشي وباء الكوليرا الذي تعرضت له البلاد عام 1831.
فقد صدرت قرارات باحتجاز كل السفن القادمة إلى إسطنبول لمدة في مضيق البوسفور. وتقرَّر فرض حجر صحي على السفن القادمة من الدول الإسلامية إلى إسطنبول في الميناء الكبير، والسفن القادمة من الدول الأخرى في خليج إستينيا، لمدة 5 أيام.
وخلال تلك الفترة، كان يتم عزل المصابين بالوباء ووضعهم في الحجر الصحي بمستشفى مالتبه، وفي "برج الفتاة"، وهو برجٌ صغير يقع على جزيرة صغيرة عند المدخل الجنوبي لمضيق البوسفور.
ولفتت إلى أن الطبيب "أنطوان لاغو" الذي كان يعتني بالمرضى الموجودين بالحجر الصحي في "برج الفتاة"، كتب رسالة حول تطبيق أسلوب الحجر الصحي في أوروبا ومكافحة انتشار الأمراض المعدية، وكان لهذه الرسالة أثر كبير في تأسيس نظام الحجر الصحي في أوروبا بعد ذلك.
وأوضحت صاري يلديز أنّ نظام الحجر الصحي بدأ يُطبق بشكلٍ ممنهج أكثر في جناق قلعة عام 1835، وأنه تم تأسيس خيام للحجر الصحي في جناق قلعة بسبب وباء الكوليرا، الذي أثر على منطقة البحر المتوسط وما حولها، إضافة إلى فرض حجر صحي مؤقت على السفن المتجهة إلى إسطنبول ومرمرة.
الدولة العثمانية والأوبئة.. فحص السفن وتأسيس مجلس الحجر الصحي
كان السلطان محمود الثاني يهتم كثيراً بمسألة الحجر الصحي، وبناء على أمرٍ منه، اجتمع مجلس الشورى وشارك به أيضاً العلماء، ورأى المجلس أنّ الحجر الصحي جائز، وعقب ذلك تم تأسيس إدارات ومؤسسات مثل "مجلس الحجر الصحي".
ولفتت صاري يلديز إلى أنه "تم وضع قاعدة تنص على عدم دفن أي شخص يموت في مناطق أيوب سلطان، وبرج غلاطة، وأوسكودار، ومنطقة مضيق البوسفور من دون إبلاغ مجلس الحجر الصحي، وأخذ ترخيص بالدفن، مهما كان المرض المتسبب في الوفاة، ومهما كانت قومية أو عرقية المتوفَّى".
وكانت المستشفيات تختلف بحسب كلّ مجموعة عرقية، ولم تكن هناك مستشفيات خاصة باليهود، ولذلك سُمح لهم ببناء مستشفيات خاصة بهم في منطقة خاص كوي بإسطنبول.
ولأن المباني المخصصة للحجر الصحي لم تكن قد بُنيت بعد، تم تخصيص سفينة من الترسانة العامرة وسُحبت إلى منطقة برج غلاطة واستخدمت للحجر الصحي.
وعندما بدأت بعض الأمراض تظهر على متن السفينة، تم تحويل مبنى الجمارك القديم إلى مبنى للحجر الصحي.
وأصبح إلزامياً من أجل المسافرين بالسفن، من وإلى إسطنبول، كتابة الوضع الصحي بالمكان الذي قدموا منه في وثيقة المرور التي تُعطى إليهم، وتم تأسيس عدد كبير من المحاجر الصحية خارج إسطنبول في بورصة وطرابزون وجناق قلعة وسيروس وجزيرة ميديللي.
ولم يكن هناك خبراء في تطبيق الحجر الصحي بالدولة العثمانية، ولذلك تم إحضار رئيس الأطباء بالحجر الصحي في زمون بالنمسا الطبيب ميناس ومساعده ومترجمه بموجب اتفاقية مع النمسا.
كما جرى تأسيس مجلس لإدارة ومتابعة شؤون الحجر الصحي، وبالإضافة إلى الأطباء الأوروبيين تم إشراك ممثلي السفراء الأجانب أيضاً في المجلس، إلا أنه مع مرور الوقت أصبح الأجانب هم الأغلبية في المجلس، ما أدى لاحقاً إلى نتائج لم تكن في صالح الدولة العثمانية.
قطاع الصحة ومعاهدة لوزان
أمّا بخصوص أعداد العاملين في المحاجر الصحية آنذاك، فقالت البروفيسورة صاري يلديز إنّه "في عام 1896 كان يوجد 125 مركزاً للحجر الصحي بخلاف الحجر الصحي في الحجاز، ويعمل بها 511 فرداً".
وعند إلغاء "مديرية الصحة"، كان هناك 42 طبيباً و425 موظفاً يعملون بها، وعندما ألغيت الامتيازات الأجنبية في مؤتمر لوزان اعترض الأوروبيون، وطلبوا تأسيس لجنة الطب بدلاً من مديرية الصحة المُلغاة، إلا أن الوفد التركي رفض ذلك، وتم إلغاء الامتيازات الأجنبية في الصحة وتأميم قطاع الصحة.
كما أرسلت الدولة العثمانية وفوداً طبيّة عدة مرات إلى منطقة الحجاز عند تفشي وباء الكوليرا بين الحجاج عام 1865، وتسبب في حصد أرواح الكثير منهم.
وأوضحت صاري يلديز أنه بناء على قرارات مؤتمر الصحة الدولي المنعقد بإسطنبول عام 1866، فقد تأسس أكبر مركز للحجر الصحي في الدولة العثمانية في جزيرة كمران، بمدخل البحر الأحمر من أجل السفن والمسافرين القادمين من الشرق الأقصى والهند، حيث ظهر وباء الكوليرا.
ولفتت إلى أن الدولة العثمانية بدأت في تأسيس العديد من مراكز الحجر الصحي على سواحلها بالبحر الأحمر لتقوية وضعها ومنع أي تدخُّل خارجي.
وعقدت الدول الأوروبية مؤتمر الصحة الدولي الثاني بباريس عام 1894، لبحث الحفاظ على الصحة العامة في مكة أثناء الحج، ومنع أي تهديد على الصحة في خليج البصرة.
وكشفت الدول الكبرى، خلال المؤتمر، عن نيتها ورغبتها في التدخل في الحجّ بذريعة الحفاظ على الصحة العامة، وهو ما دفع الدولة العثمانية للتعهد بإجراء إصلاحات في قطاع الصحة بمنطقة الحجاز، وفي عام 1895 تم تأسيس مديرية الصحة بمكة.