ربما وأنت تتابع أزمات وأوضاع المسلمين الصعبة في الهند الآن تتساءل عن وصول الإسلام لتلك البلاد. المثير في قصّة تاريخ الإسلام في الهند، أنّه لم يكن مجرّد دين وصل إلى تلك البلاد البعيدة عبر التجارة وفقط، بل إنه كان الدين الرسمي للهند، إذا استطعنا أن نقول ذلك بمفردات عصرنا الحديث.
فقد كانت دولة إسلامية عريقة وقوية للغاية تحكم الهند وأجزاء من وسط آسيا أيضاً إلى أن جاء الاستعمار الأوروبي الذي مزّق الهند، وتسبّب في الوضع المزري للمسلمين هناك الناشئ عن الصراع الديني.
في البداية.. الإسلام دخل الهند مع التجارة
لم تكن الهند التي نعرفها الآن هي نفسها منذ عدّة قرون، فقد كان الشمال والوسط منها فقط بالتقريب ما أطلق عليه بلاد الهند، كما لم تكن دولةً موحدة وإنما كانت مقسمة عبر العديد من الإمارات والممالك.
وقد وصل الإسلام الهند عن طريق التجارة، فالمحيط الهندي سهّل الوصول من شبه جزيرة العرب إلى الهند، وكذلك من الشمال، بعدما دخل الإسلام إيران في عهدٍ مبكر في عهد عمر بن الخطاب.
وفي العصر الأموي أرسل الحجاج بن يوسف حملةً لفتح الهند لكنّها نجحت فقط في ضمّ أجزاءٍ من باكستان وتأسيس مملكة مسلمة في ذلك الجزء الذي كان تابعاً للهند حينها.
تلاحقت الفتوحات في شمال الهند لاحقاً، واستمرّ العباسيون فيما بدأه الأمويون، وأصبح في أطراف وشمال الهند عدّة ولايات إسلاميّة، تطوّرت لاحقاً إلى إماراتٍ مستقلّة.
ومع دخول شعوب وسط آسيا في الإسلام، وتطوُّر حركة التجارة بين الخليج العربي والهند وكذلك من الشمال عبر إيران، أصبح الإسلام أمراً واقعاً في الهند، إذ دخل عدد كبير جداً من الهنود إلى الإسلام.
من نسل جنكيز خان أسسوا دولة المغول المسلمين في الهند
لم يكن يعلم جنكيز خان، عدوُّ المسلمين الأوّل الذي دمّر أحفاده عاصمة الخلافة العباسية بغداد وأجزاء كبيرة من العالم الإسلامي قبل معركة عين جالوت، لم يكن يعلم أنّ أفراداً آخرين من أحفاده سيصبحون مسلمين بل ويحاربون أقاربهم المغول غير المسلمين، مثل بركة خان على سبيل المثال.
ومثل بركة خان كان ظهير الدين بابور، من نسل جنكيز خان من طرف والدته، ومن نسل تيمور لنك من طرف والده.
ورث بابور عن أبيه مملكةً صغيرةً في أفغانستان، توفي والده وسنة 11 عاماً، ومع اشتداد عوده بدأ مسيرته لتوسيع هذه المملكة أو الإمارة الصغيرة إلى إمبراطورية ستكون إحدى أقوى ثلاث إمبراطوريات في العالم في وقتها. وهي دولة المغول المسلمين في الهند.
انطلق بابور نحو الهند الكبيرة جداً بالنسبة له مرةً واحدة، أرسل حملاتٍ استطلاعية بسيطة في البداية، ثم سار إلى شمال الهند، وواجه سلطان دلهي المسلم آنذاك إبراهيم اللودهي. يقال إنّ عدد جنود بابور كان 12 ألفاً في مواجهة 100 ألف، لكنّ أسلحتهم المتطورة وحسن التخطيط جعل بابور يفوز في معركة "بانيبات" الضخمة.
وهكذا تأسّست دولة المغول في الهند.
يعتبر ظهير الدين بابور أهم سلاطين تلك الدولة، فقد استطاع أن يؤسس دولته في الهند ويوسع نفوذها، وبدل أن كان أميراً لمملكةٍ صغيرة في أفغانستان، أصبح الآن يتحكّم في مجمل الهند وأفغانستان وأطرافهما.
لكنّ عظمة بابور ليست فقط في تخطيطه العسكري، وإنّما في إدراكه للتنوُّع الثقافي والديني في الهند، فالهند دولةٌ ضخمة بها عددٌ هائل من الديانات والأعراق واللغات. وهكذا احترم ظهير الدين بابر كلّ هذه الاختلافات والتنوّعات. وهكذا، في وصيته لابنه همايون ركّز بابور على ألا ينساق ابنه وراء الخلافات الطائفية والعرقية في الهند، ليحافظ على وحدة الدولة.
جلال الدين أكبر.. هذا الأسد من ذاك الأسد!
توفي بابور عن عمر 47 عاماً في سنة 1530م، وترك من خلفه لابنه همايون دولةً ضخمةً مترامية الأطراف. لكنّ همايون الذي كان سنة 22 عاماً فقط، لم يستطع الحفاظ على وحدة الدولة خصوصاً أنّ إخوته حاولوا الانفصال عنه. في النهاية استطاع توحيد مملكته في نهاية عمره، وتوفي عام 1556.
وبعد وفاته، جاء حاكمٌ آخر يعتبر هو الوحيد في دولة المغول المسلمين في الهند الموازي في عظمته ومجده لجدّه المؤسس ظهير الدين بابور.
كان جلال الدين محمد أكبر محباً للعلم والمعرفة، ومستوعباً للتنوُّع الثقافي والعرقي والديني في بلاد الهند، وهكذا ألغى جلال الدين سياسة الجزية المعمول بها في الدول الإسلامية، بخصوص غير المسلمين الذين لا يخدمون في الجيش فيدفعون الجزية مقابل التجنيد.
وهكذا أصبحت كلّ الديانات متساويةً أمام الدولة، لا فرق بين أحدها والآخر. كانت هذه الفكرة متقدمة للغاية حينها، وربما هي المحاولة الأولى الوحيدة لتأسيس دولة مدنية في ذلك الوقت، قبل أن تفكر أوروبا الحالية فيها.
حكم جلال الدين دولة الهند 50 عاماً، ازدهرت فيها الدولة بشكلٍ متزايد، وزادت رقعتها، وتصالحت فيها الأعراق والأديان بشكلٍ كبير، فقد كانت زوجته ابنة أحد كبار قادة قبائل الرجبوت التي لم تكن على وفاق مع حاكمي الدولة في تلك الفترة.
الاستعمار البريطاني يدمر إرث الإسلام في الهند
ظلّت هذه الدولة مثالاً على الحضارة والتسامح، ويمكن اعتبار أنّ دولة المغول المسلمين في الهند إلى جانب الدولة العثمانية كانتا الدولتين الأقوى والأكثر ازدهاراً في العالم في القرن السادس عشر. لكنّ هذه الدولة العظيمة انتابها ما ينتاب كلّ الدولة في النهاية: الشيخوخة والانهيار.
دخلت شركة الهند البريطانية إلى الهند في القرن الثامن عشر لتنافس نظيراتها الهولندية والفرنسية على احتكار التجارة مع الهند، والتي كانت في ذلك الوقت جوهرةً ثمينة باعتبار أنّها المُنتج الأوّل في العالم للتوابل، والتي يمكن اعتبارها أيضاً أهم سلعة في ذلك الوقت تشتريها كل دول العالم.
مع الوقت سيطرت شركة الهند البريطانية على مقاليد الأمور في الدولة المغولية الآفلة، وبدأت في تجنيد الهنود من أعراقٍ وأديانٍ مختلفة وتضربهم بعضهم ببعض، فاستغلت الصراع الموجود بين الهندوس والمسلمين للإيقاع بكامل البلاد.
وهكذا، كان آخر سلطان مغولي مسلم في الهند هو السلطان بهادر شاه الثاني. في عام 1856 قامت ثورةٌ من قبل الجنود الهنود المسلمين في الجيش البريطاني. استطاعوا أن يتمردوا على الضباط البريطانيين، بل وقتلوا عدداً منهم، وهربوا إلى السلطان القابع في قصره يخبرونه بثورتهم متوقعين منه أن يؤيدهم.
لم يكن السلطان يملك من أمره شيئاً، وذعر من هذه الثورة، ففي الخامسة والثمانين لم يكن يشغله تاريخ أسرته المجيد ولا سلالته القوية التي كان يهابها أعداؤها، وإنما شغله أن يموت بسلام.
استغلّ جيش شركة الهند البريطانية تلك الثورة للقضاء على السلطان وإرساله إلى المنفى بعد ذبح أبنائه لكي لا يبقى منهم خلف، وقد توفي عام 1862، وهكذا انتهت تلك السلالة القوية التي حكمت الهند قرابة 300 عام.
لكن للقصة بقية، فقد استغل الاستعمار اختلاف الطوائف والأعراق في سياسته في الهند، وهكذا أصبح هناك ناشطون هندوس وناشطون سيخ وناشطون مسلمون وناشطون من كل الأعراق والأديان. وعند استقلال الهند عام 1947 عن الاستعمار البريطاني، نشأت أزمة بين الهندوس والمسلمين، وهكذا أعلن المسلمون تأسيس دولة باكستان، ليصبح مسلمو الهند الذين حكموا إمبراطورية الهند المترامية الأطراف يوماً ما، أقليةً صغيرة في الهند، وخرج بعضهم بتأسيس دولة صغيرة مقارنةً بحجم الدولة التي حكموها يوماً ما.
وهكذا، فالصراع بين الهند وباكستان مستمر من عام 1947 وحتى الآن.