الحملة الصليبية الأولى: عندما أكل الأوروبيون لحوم البشر في سوريا

في الحملة الصليبية الأولى ارتكب الصليبيون مجازر كبيرة، لكنّ إحدى هذه المجازر لم تلق تسليطاً للضوء عليها بشكلٍ كبير، عندما أمل الصليبيون لحوم البشر!

عربي بوست
تم النشر: 2020/05/11 الساعة 14:07 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/05/11 الساعة 14:09 بتوقيت غرينتش
الحملة الصليبية

ظهرت فكرة الحملات الصليبية على المشرق الإسلامي منذ بداياتها، على أساس ديني وعقائدي وضعه البابا في أوروبا، بدعوى أنّ الأحقية للمسيحين الغربيين في امتلاك بيت المقدس والأماكن المقدسة في المشرق، وانتزاعها من أيدي المسلمين، إلى أن أصبح هذا الأمر يعتبر واجباً مقدساً على ملوك وجيوش وفرسان وشعوب أوروبا، لحماية راية الصليب وتنفيذ "كلمة الله على الأرض".

ولكن لا توجد عقيدةٌ في الدنيا مهما كان مصدرها، سماوياً أو أرضياً، تُشرِّع ما قام به جيش الصليبيين في حملتهم الأولى لاحتلال القدس، فقد قاموا بارتكاب واحدةٍ من أبشع المجازر في التاريخ، بحق المسلمين العزّل الأبرياء، عندما أكلوا وتغذوا على لحومهم، وهم في طريقهم إلى قبر المسيح في فلسطين.

نتحدث  في هذا التقرير عن واقعةٍ أليمة حدثت عام 1098-1099، تُعرف باسم مذبحة معرّة النعمان، حين أكل الصليبيون لحوم البشر.

الحملة الصليبية الأولى.. شراسة وبدائية

وفي خلفية قيام الحملة الصليبية الأولى التي ذكرناها سابقاً، فهي انطلقت عام 1096، بدعوى ومباركة من البابا أوربان الثاني عام 1095، تحت قيادة الفرسان والأمراء الأوروبيين، وجيشهم المزوّد بالمؤن والسلاح والعتاد.

الحملة الصليبية الأولى
قادة الحملة الصليبية الأولى الأربعة

قامت هذه الحملة المنظمة، التي تلت حملة الفقراء، بمشاركة مجموعات مقسمة، بقيادة جودفري دوق اللورين، وريمون دو سانجيل دوق إقليم الناربون، وبوهيموند كونت تورانتو، وروبرت الثاني كونت فلاندر، وهيو العظيم كونت فرماندوا، وتقرر أن يجتمعوا في القسطنطينية لتكون نقطة الالتقاء قبل التوجه إلى بيت المقدس.

تحركت جيوش الصليبين إلى مدينة نيقية "إزنيق حالياً في تركيا" التي كان يحكمها السلاجقة المسلمون، وفرضوا عليها حصاراً شديداً حتى سقطت المدينة في أيديهم عام 1097، وكان هذا أول انتصار للصليبيين في حملتهم الأولى، الأمر الذي بث روح السرور والحماسة في أوروبا، وترتب عليه زيادة دعم الحملة بالجنود والإمدادات.

استكملت الحملة طريقها إلى أنطاكية، وهناك انشق بلدوين أخو جودفري بقواته عن الجيش الصليبي واتجه إلى إمارة الرها التي استولى عليها وأسس بها أول إمارة صليبية في المشرق، وعندما بلغ الجيش الصليبي أنطاكيا، فرضوا عليها حصاراً مشدداً طال لمدة أشهر.

ولكن الصليبين دخلوا أنطاكية أخيراً بعد خيانة أحد المستحفظين "الحراس" على الأبراج، ومهَّد لهم الصعود إلى البرج وفتح الأبواب للدخول إلى المدينة ويدعى فيروز، وكان مسلماً من أصل أرميني، وكان ابن أمير أنطاكيا ياغي سيان، وكان قد اتهمه بأنه يتاجر في السوق السوداء وغرمه غرامة كبيرة، فأراد فيروز الانتقام، وفق ما ذكر ابن الأثير في كتابه الكامل.

ما فعله الصليبيون في أنطاكية كان دماراً هائلاً. يقول المؤلف اللبناني – الفرنسي أمين معلوف في كتابه "الحروب الصليبية كما رآها العرب" أنّ المدينة غاصت في النار والدم، فالرجال والنساء والأولاد يحاولون الهرب في الأزقة الموحلة، ولكنّ الخيالة يمسكون بهم من غير جهدٍ ويذبحونهم، وقام بوهيموند بالاستيلاء على المدينة، وتأسيس الإمارة الصليبية الثانية في الشرق".

أكلوا لحوم المسلمين في معرّة النعمان

نحن هنا في صدد الحديث عن مجزرةٍ بشعة وغير إنسانية سجلها التاريخ الإنساني، ارتكبها الصليبيون بكل همجية في حقّ سكان مدينة معرّة النعمان السورية، التي تقع جنوب مدينة إدلب في عام 1099، وهم في طريقهم إلى القدس، التي احتلوها أيضاً في نفس العام.

يصف لنا أمين معلوف، طبيعة أهل المعرة بأنهم كانوا ميسوري الحال، وكانت كرومهم وحقول زيتونهم وتينهم، تؤمِّن لهم رخاءً متواضعاً، وأما شؤون مدينتهم فقد كان يقوم بها بعض الوجهاء المحليين الطيبين، ممن ليست لهم مصلحة في النفوذ.

الحملات الصليبية
الحملة الصليبية الأولى

وكانت المدينة هادئة البال حتى بدأ القلق والخوف يتسلل لها وللقرى والمدن المجاورة لها، على خلفية المجازر الفظيعة التي حدثت في أنطاكية التي تقع في الشمال الشرقي للمعرّة؛ وبدأ القلق يتزايد بعدما أصبح الجيش الصليبي يغير على القرى المجاورة للمعرّة وينهبها، دون التعرُّض للمعرّة ذاتها، وهناك قامت بعض العائلات المقتدرة بالهرب إلى مدن أخرى، وبقي معظم أهالي المعرّة ينتظرون مصيرهم المجهول.

في نهاية عام 1098، اتجه جيش الصليبيين نحو المعرّة التي لم يكن بها جيش وحاصرها من جميع الاتجاهات، فقام سكان المدينة بتشكيل ميليشيا محلية بسيطة ضمَّت بضع مئاتٍ من الشبان الذين ليست لديهم أيّ خبرة عسكرية، وقاوموا جيش الصليبين بكل قوة في بادئ الأمر عند أسوار المدينة، ولكن تداخل بينهم الخوف والهلع وفرّوا إلى منازلهم، حسبما ذكر ابن الأثير في كتابه الكامل.

لم يجد أهالي المعرّة أمامهم سوى اللجوء إلى الصليبيين أنفسهم، وبالفعل اتصل وجهاء المدينة ببوهيموند، أمير أنطاكية الجديد، والذي كان على رأس الجيش الصليبي الذي حاصر المعرّة، ووعدهم ببقائهم على قيد الحياة في حال توقفهم عن القتال، وانسحابهم من بعض الأبنية، فوافقوا و احتشدت العائلات في بيوت المدينة.

ولكن في فجر اليوم الذي تلى هذا الاتفاق، توغّل الصليبيون في المدينة وقتلوا كل من أمامهم، ويقول ابن الأثير أنهم قتلوا ما يزيد عن مئة ألف شخص، وسبوا الكثير، إلا أن معلوف قال إن هذا الرقم غير دقيق، ورجح أن يكون عدد القتلى أقل من عشرة آلاف.

الهول ليس في عدد الضحايا فقط.. بل فيما حلّ بهم 

من الممكن تصور حجم فظاعة الموقف بدون مبالغة، من الاعتراف الذي سجله المؤرخ الفرنسي رادولف كين الذي عاصر تلك الفترة، بقوله: "كان جماعتنا في المعرّة يغلون وثنيين (يقصد المسلمين) بالغين في القدور، ويشكون الأولاد في سفاديد (أسياخ)، ويلتهمونهم مشويين". 

أما المؤرخ فولتشر أوف تشارترز الذي شارك في تلك الحملة، فيصف هذه الحادثة الأليمة بقوله: "يمكنني القول بقشعريرة إن الكثير من أناسنا يقودهم جوعٌ مجنون، انتزعوا قطع اللحم من أرداف القتلى العرب وقاموا بشويها، ولم ينتظروا إلى أن تستوي بشكلٍ كافٍ، والتهموها بطريقة متوحشة".

كان من الضروري أن يبرر الصليبيون فعلتهم الشنيعة هذه بعدما وصلت أخبارها للبابا، فمهما كان الحقد الذي يكنه البابا والصليبيون تجاه العرب والمسلمين بسبب تفوقهم الثقافي والحضاري؛ إلا أن هذه الفعلة محرمة على جميع الناس بمختلف عقائدهم، ففي السنة التي تلت تلك الحادثة أرسل زعماء الصليبيين رسالة تبرير رسمية للبابا.

تقول الرسالة: "اجتاحت الجيش مجاعة فظيعة في المعرّة، وألجأتهم إلى ضرورة جائرة هي التقوُّت بجثث المسلمين"، وفي تبرير آخر لإثبات أن هناك مجاعة قاسية حلت بالصليبين هناك، هي عبارة المؤرخ الفرنسي ألبير دكس الذي شارك في معركة المعرّة: "لم تكن جماعتنا لتأنف وحسب من أكل قتلى الأتراك والعرب، بل كانت تأكل الكلاب أيضاً".

ورداً على مبرر بأن الجوع هو الذي اضطر جنود الصليبيين لأكل لحوم المسلمين، يرى ابن الأثير أن هذا ليس منطقياً أبداً، فيقول إن سكان المعرّة كانوا يشهدون طوال ذلك الشتاء المشؤوم تصرفاتٍ لا يكفي للجوع تفسيرها، فقد كانوا يرون بالفعل عصابات من الفرنج المشحونين بالتعصُّب، مثل جماعة "الطفور"، ينتشرون في الأرياف وهم يجأرون بأنهم راغبون في قضم لحم المسلمين، ويتحلّقون في المساء حول النار لالتهام فرائسهم.

استمر الوضع بهذه الصورة المأساوية، حتى خرج الصليبيون من مدينة المعرّة في بداية عام 1099، ولكن قبل أن يتركوها أشعلوا النيران في جميع منازل المدينة، وهموا لاستكمال حملتهم الوحشية نحو الجنوب، للوصول إلى بيت المقدس.

وبعد أن دخل الصليبيون المدينة المقدسة، أذاقوا أهلها الويلات، ولم يتوانوا في سفك دماء العزل الأبرياء، فانطلقوا في شوارع المدينة يذبحون كل من يقابلونهم من رجال ونساء وأطفال، ولم تسلم المنازل الآمنة من اعتداءاتهم الوحشية، واستمر ذلك طيلة اليوم الذي دخلوا فيه المدينة.

علامات:
تحميل المزيد