اشتعلت منذ أيام معركة تغريدٍ على تويتر عندما دعى مغرد سعودي لإزالة الرواق العثماني المعروف بـ (الرواق التاريخي) من الحرم المكيّ، لأنّ العثمانيين هم من بنوه، معتبراً أنّ العثمانيين كانوا أعداءً لبلاد الحجاز، وتفاعل مع تغريدته الكثير من المغردين الذين هاجموا العثمانيين وتركيا الحالية.
وبعيداً عن الصراع السياسي الدائر على تويتر، وبعيداً أيضاً عن المشاحنات القومية والعاطفية، ما هي حقيقة الرواق العثماني ومن بناه؟
الرواق التاريخي.. أزيل سابقاً لفترةٍ مؤقتة
ثارت قصّة الرواق العثماني في وقتٍ سابق، بالتحديد عام 2012، عندما قررت السلطات السعودية توسعة الحرم المكيّ وأزالت هذا الرواق بشكلٍ مؤقّت لتتمّ إضافته من جديد في مكانه عام 2016، بعدما أسندت أعمال إعادة ترميم وتركيب الرواق العثماني لشركةٍ تركيّة، وفق ما ذكره موقع "ترك برس" في خبرٍ منشور عام 2016.
لكنّ الأجواء التي أحاطت بالإزالة المؤقتة لهذا الرواق العثماني لم تكن كتلك الحالية التي استحكمت فيها بعض المشكلات السياسية الظاهرة للعيان بين السعودية وتركيا، ويمكنك العودة لتاريخ التغريدات في عام 2012 على وسم #الرواق_العثماني، لتتأكّد من ذلك.
ولكن للإجابة على السؤال الأساسي في هذا التقرير: من بنى هذا الرواق العثماني التاريخي؟ سنعود معك عزيزي القارئ إلى رسالة دكتوراه بعنوان: الكتابات والنقوش في الحجاز في العصرين المملوكي والعثماني من القرن الثامن الهجري حتى القرن الثاني عشر الهجري، للدكتور السعودي محمد فهد عبدالله الفعر.
نشرت هذه الرسالة عام 1984، وفي الرسالة الضخمة يعود بنا الكاتب إلى النقوش والكتابات في الحرمين وغيرها من المساجد والأماكن التاريخية في بلاد الحجاز في العصرين المملوكي والعثماني، ومن هذه الرسالة سنجيبك. ويمكنك تحميلها ومطالعتها كاملة من هنا.
بناه الخليفة عثمان بن عفّان ورمّمه سلطان عثماني
بالمطالعة التاريخية البسيطة يتبيّن لنا أنّ الخلفاء والسلاطين المسلمين أولوا اهتماماً كبيراً بالحرمين الشريفين، وكانت أوّل توسعة للحرم المكيّ في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، ثمّ في عهد الخليفة عثمان بن عفّان، وفي هذه التوسعة دخلت "الأروقة" في الحرم المكيّ -أي أنها لم تكن موجودة قبل ذلك-، وبالفعل سمِّي الرواق بالرواق العثماني نسبةً للصحابي عثمان بن عفان.
شهد الحرم المكيّ توسعاتٍ وترميماتٍ واعتناءً خاصاً بعد ذلك من كلّ الخلفاء والسلاطين المسلمين، لا فرق في ذلك بين العباسيين أو المماليك أو العثمانيين أو غيرهم من الدول المسلمة، فقد كان وقوع الحرمين الشريفين في منطقة نفوذ سلطانٍ أو خليفةٍ ما دافعاً للاهتمام بهما، فمن رعايته لهما أيضاً يكتسب شرعيةً سياسية ودينية كبيرة.
نعود لرسالة الدكتوراه التي ذكرناها سابقاً، إذ يذكر فيها د. محمد فهد عبدالله الفعر الكثير من الإعمار والترميم والتوسيعات في الحرم المكيّ والنبويّ على السواء في العصرين المملوكي والعثماني لاحقاً.
ومما ذكره عن هذا الرواق العثماني، أنّه اصيب بالخلل فأدى ذلك إلى ميلان جدرانه، وعُرض ذلك على السلطان سليم الثاني العثماني عام 1571ـ، فأصدر أوامره بعمارة المسجد الحرام كلّه، وأن تبدّل سقوفه الخشبيّة في الأروقة بقبابٍ حجريّة دائريّة.
صدر الأمر لوالي مصر حينها سنان باشا، ومن المثير للانتباه أنّ المعمار الذي أشرف على هذا الترميم للحرم المكيّ كان مصرياً يدعى "محمد جاويش المعمار"، وكان يلقّب حينها بشيخ المهندسين المصريين. وهو أوّل من أدخل نظام القباب في المساجد فقد كان المعتمد في مساجد الحجاز حينها هي الأسقف الخشبيّة فقط.
ويذكر لنا المؤلف أنّ المسجد الحرام كان له سقفان خشبيان يعلو أحدهما الآخر لتخفيف درجة الحرارة داخل المسجد، لكنّ المساحة بين السقفين تحولت لوكرٍ للأفاعي والحيّات وبعض الحيوانات والزواحف الأخرى، فكانت القباب حلاً مميزاً في تلك الفترة.
توفي السلطان سليم الثاني قبل إتمام أعمال الترميم والعمارة، فباشر ابنه مراد الثالث إتمام عمليّة الترميم والإعمار التي استغرقت 4 سنوات من عام 1571 حتى عام 1575، ويذكر قطب الدين الحنفي في كتابه "الإعلام بأعلام بيت الله الحرام"، أنّ إجمالي ما صُرف على إعادة الإعمار والترميم 100 ألف دينار ذهبي جديد، وذلك غير الأخشاب المحمولة من مصر والحديد وبقية آلات العمارة.
هل تجديد المسجد الحرام هو العمل الوحيد للعثمانيين في الحجاز؟
يذكر د. الفعر أيضاً ملامح أخرى لاعتناء السلاطين العثمانيين بالمسجد الحرام والمسجد النبوي ومكة المكرمة والمدينة المنورة في العموم، فهو يشير إلى أنّ السلطان مراد الثالث بعدما أتمّ عمارة المسجد الحرام أرسل ثلاثة قناديل من الذهب مرصّعة بالجواهر، اثنان للكعبة والثالث للحجرة النبويّة، ويعتبر مراد الثالث أوّل من أرسل قناديل الذهب من السلاطين العثمانيين للحرم.
بل يذكر لنا النقش المكتوب في واجهة الرواق الشرقي المطلّ على الصحن في الداخل "عزٌّ لمولانا السلطان الملك المظفّر مراد خان بن السلطان سليم خان بن سليمان خان عز نصره في سنة 984". وبالطبع لا ندري هل ظلّ النقش كما هو عليه أم لا، فرسالة الدكتوراه أنجزت ونشرت عام 1984.
لكنّ مراد الثالث لم يكن أوّل سلطان عثماني يهتمّ بالحرمين في مكّة والمدينة. يذكر لنا المؤلف العديد من الترميمات وإعادات الإعمار التي قام بها السلطان سليمان القانوني فقد جدد عمارة مآذن الحرم، كما جدد المقامين المالكي والحنبلي عام 1526، كما قام بإصلاح مقام إبراهيم ووضع منبراً من الرخام الأبيض في المسجد ظلّ يُخطب فيه حتى عام 1980، ثم نقل لاحقاً لمتحف الحرم.
أمّا ابنه السلطان سليم الثاني فلم تكن إصلاحاته وترميماته التي بدأها والتي ذكرناها بالأعلى هي الوحيدة، فقد أتمّ عمارة عين عرفة وأوصلها إلى مكّة. بل تجاوز اهتمامه بأرض الحرمين مجرّد الإعمار وإعادة الترميم إلى إرسال ألف دينار سنوياً صدقةً للفقراء في الحرمين الشريفين قبل أن يصبح سلطاناً ليستعينوا بها على أداء فريضة الحج، إلى غير ذلك من الهبات والصدقات.
أمّا ابنه مراد الثالث فقد أرسل منبراً من الرخام للمسجد النبوي بدلاً من المنبر الخشبي الذي كان قد أرسله السلطان المملوكي قايتباي، وظلّ هذا المنبر كما هو حتى الثمانينيات، كما أنّه رمم سطح المسجد النبوي عام 1591، وبيّضه وفرشه.
لا تنتهي النماذج التي يضربها د. الفعر في رسالة الدكتوراه على إسهامات السلاطين العثمانيين في ترميم وإعادة إعمار الحرمين الشريفين، بل وكثرة الأبنية والمدارس والتكايا وعيون الماء في عهودهم المختلفة.
وبعيداً عن الصراع السياسي وتغريدات تويتر البعيدة كل البعد عن الحقائق التاريخية الموثّقة، فإسهامات السلاطين والخلفاء والملوك المسلمين عبر التاريخ الإسلامي كلّه في الاهتمام بالحرمين الشريفين وإعادة إعمارهما وتحسينهما أمرٌ لا اختلاف فيه، توثّقه كتب التاريخ والآثار الموجودة حتى الآن في بلادنا العربية والإسلامية.